تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هذه الاتهامات التي فندناها تماما بالاستناد إلى الروايات التاريخية الموثقة بعد عرضها على ضوء المنطق الإنساني العام ووضعها تحت مجهر التحليل النفسي والاجتماعي للبيئة والأشخاص والرسول على وجه خاص، سوف ننسى هذا كله ونمضى مع المستشرقين إلى نهاية الشوط لنرى ما هم قائلون. إن «جب» مثلا يعدد ما أخذه الرسول من اليهود بعدها هاجر إلى يثرب، فيذكر صيام عاشوراء وصلاة الظهر واستقبال بيت المقدس (197). ولنبدأ بآخر شيء ذكرًا فنقول إننا قد ناقشنا هذه النقطة من قبل، وخلاصة ما قلناه هناك إنه عليه الصلاة والسلام كان يصلى إلى هذه القبلة قبل الهجرة ولكنه كان يجعل الكعبة بينه وبينها، أي أنه كان يستقبل القبلتين. فلما هاجر إلى المدينة استحال عليه أن يجمع بينهما، فاستقبل بيت المقدس لفترة، ثم نزل الوحي الإلهي بالتحويل إلى الكعبة وقد عرض اليهود عليه أن يعود إلى قبلة المقدس ويتبعوه، وهو ما بين التواءهم وخبثهم، فالصادق في التمسك بدينه لا يعرض مثل هذا العرض. لكنه عليه السلام قد رفض ذلك. أما الزعم بأنه تحول إلى الكعبة بعد أن يئس من اليهود فهو زعم أعرج، إذ إنه عليه الصلاة والسلام لم يعهد فيه اليأس يوما، فضلا عن أن موقف كفار مكة منه ومن دينه في ذلك الحين لم يكن مما يبعث على توقع إيمانهم وشيكا بحيث يصح القول بأنه كان يهدف إلى إقامة دين عربي قبلته عربية. ثم لو صح هذا التعليل أفلا يدل على أن النبي، برغم كل هذا العمر الذي قضاه يدعو قومه إلى دين الله فلم يؤمن به إلا القليل، كان لا يزال عنده أمل كبير في أن يتبعوه يوما؟ فكيف يقال إذن إنه يئس من اليهود هكذا سريعا؟ (198) أم تراه وجد أن اليهود أشد مراسًا من كفار مكة؟ بالعكس لقد كان اليهود في يثرب حينذاك أذل وأخنع من هذا ألف مرة، لأن المسلمين هناك كانوا أغلبية، وكان السلطان في أيديهم وكان لهم جيش وظفر وناب وهو ما لم يكن منه شئ في مكة. ثم إن عددًا كبيرًا منهم نسبيا قد آمن به، وفيه بعض أحبارهم كما مر ثم فلنفترض أن اليهود كانوا صادقين في كفرهم به، فلماذا تحاكموا إليه في أمر الزانيين وهى عقوبة دينية منصوص عليها في توراتهم؟ (199) بل لماذا لم يستعينوا بإلههم الذي جعلهم شعبا مختارًا مميَّزًا على سائر البشر ويحاربوا «محمدًا» ويقضوا عليه مرة واحدة؟ لقد كان «محمد» وأتباعه هم الذين استعانوا عليهم بالله فنصرهم عليهم أعظم انتصار. فهذا عن القبلة، أما صلاة الظهر فإني لا أفهم كيف تجاهل «جِبْ» أن الصلوات الخمس قد فرضن كلهن بما فيهن الظهر في مكة ليلة الإسراء والمعراج؟ ويبقى صوم عاشوراء والواقع أن الوحي سرعان ما نزل بصوم رمضان فنسخ عاشوراء إلى الأبد. ومع ذلك فيهمني أن أوضح أمرا على قدر كبير جدا من الأهمية وهو أن صوم يوم عاشوراء كان معروفا في مكة في الجاهلية. كذلك لا يقل أهمية عن هذا أن الرسول، حين وفد

إلى المدينة ورأى اليهود يصومون هذا اليوم، أمر أتباعه أن يصوموه قائلا لليهود: «نحن أولى بموسى منكم» (200)، وهو ما يعنى بمنتهى الوضوح أنه لم يتملقهم ولم يتابعهم، بل واجههم منذ البداية برأيه فيهم وأنه يفرق بينهم وبين نبيهم موسى، الذي هو مثله رسول من عند رب العالمين وعلى أية حال فإن صيام يوم عاشوراء كان تطوعيًّا، أي أنه ليس من أركان الإسلام من قريب أو بعيد. وبرغم هدمنا لمزاعم «جب» السابقة فها نحن أولاء ماضون معه إلى زعم جديد مؤداه أن محمدًا، عندما كان اليهود ينتقدون أخطاءه فيما يرويه من قصص الأنبياء التي تختلف عما جاء في كتبهم، كان يرد عليهم بقوله: «أأنتم أعلم أم الله؟» (201). ويتصل بذلك قول «مرجليوث» إن أسماء بعض الرسل في القرآن مختلفة عنها في العهد القديم اختلافا كبيرا (202). والواقع أن العهدين القديم والجديد لا يتمتعان، حتى عند كثير جدا من الدارسين الغربيين، بعشر معشار هذه الثقة التي يوحي بها كلام هذين المستشرقين (203). فالإحالة إليهما إذن من جانب المستشرقين على أنهما الأساس الذي ينبغي أن يحاكم إليه القرآن هي مغالطة فادحة. وهاهو ذا «مرجليوث» نفسه (204) يشير إلى نظرية يعتنقها اللاهوتيون النصارى ليسوغوا بها التناقضات التي تعج بها كتبهم المقدسة ويسميها « colouring by the medium» ومعناها أن الوحي إنما ينزل كفكرة، ثم يقول النبي الذي نزل عليه الوحي بصياغة هذه الفكرة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير