تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وممن زعم المستشرقون أنه عليه السلام قد أخذ منهم الحنفاء وهم أفراد من العرب ظهروا قبيل البعثة النبوية لم يقنعهم ما عليه أقوامهم من عبادة أصنام وتظالم وغير ذلك من مظاهر التحلل الروحي والفساد الاجتماعي وبدلا من أن يرى المستشرقون في ذلك دليلا على أن الجو كان يستدعى ظهور نبي يصلح هذا الحال المائل في جزيرة العرب وفى العالم معًا، إذ كانت الأوضاع في الإمبراطوريات العالمية في ذلك الوقت مثلها في شبه الجزيرة سواءً بل أسوأ (209)، نراهم، كعهدهم فيما يتعلق بالإسلام ونبيه، يتهمونه عليه الصلاة والسلام بالأخذ من هؤلاء الحنفاء.

وفى مناقشتنا لهذا الادعاء أحب أن أضع تحت بصر القاريء هذه الحقائق التالية: أن أحدا من الحنفاء لم يدع هذا. ولو حدث أن النبي قد تعلم من أيٍّ منهم لانبرى واحد منهم على الأقل (وليكن أمية بن أبي الصلت، الذي لم يشأ أن يؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام، ولأنه كان يطمع أن يكون هو الرسول المختار) وقال: «لا تصدقوا محمدا، فإنه دعي كذاب لقد تعلم منا، وأخذ ما علمناه إياه ولفق منه دينا». ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، فكيف يحق لأي مستشرق أن يتقدم بمثل هذا الاتهام بعد أكثر من أربعة عشر قرنا وليس في يديه أي دليل؟ أهذه هي الموضوعية التي يتشدقون دائما بها بينما يرموننا نحن المسلمين بأننا ندافع عن ديننا بالحق والباطل، مع أن كثيرين منا نحن الذين نتناول هذه الموضوعات لم يخروا على القرآن عُمْيًا وصُمًّا وبُكْمًا، بل كانت لهم مع أنفسهم محاورات طويلة قلبوا فيها الفكر والمراجع وأعادوا النظر في أشياء كثيرة؟ ثانيا لو أن «محمدًا» عليه الصلاة والسلام كان قد تعلم من الحنفاء، فمن كان أولى إذن بادعاء النبوة؟ واحدٌ من الأساتذة الأصلاء أم «محمد» تلميذ هؤلاء الأجلاء؟ ولا يقولن أحد إنهم كانوا مشغولين فقط بمصائرهم الفردية، فقد كانوا دائما يعيبون على أقوامهم قبح ما يعتقدون ويصنعون، وكان لبعضهم مواعظ في الأسواق والمجامع (210)، ولكن أحدا منهم قط لم يدع النبوة، فما السبب في ذلك ما دام ادعاؤها سهلا إلى حدِّ أن تلميذًا من تلاميذهم مثل «محمد» قد زعم أنه نبي يوحى إليه من السماء؟ لقد أسلم «ورقة» بعد أن استحكم في النصرانية (211)، كما أسلم أيضا عبيد الله بن جحش بعد الالتباس الذي كان فيه، ثم ظل مسلمًا إلى أن هاجر إلى الحبشة، وهناك تنصر ومات نصرانيا. والملاحظ من سيرته أنه كان لا يحترم غربة المسلمين في تلك البلاد، إذ كان يغيظهم بقوله: «فقَّحْنا وصاصأتم» (212). وواضح أنه لم يصبر على بلاء الاختبار الذي محص الله به المسلمين في النصف الأول من عمر الدعوة فانقلب في أول فرصة ودخل دين الدولة المضيفة، ممثلا بذلك الشذوذ على القاعدة التي يمثلها بقية المهاجرين جميعا. وأرجح أنه لو كان قد نُسئ له في عمره ورجع مع سائر المهاجرين لعاد كرة أخرى إلى الإسلام، فإن نفسيته فيما يبدوا من أخباره لم تكن نفسية متماسكة. وينبغي ألا يفوتنا أنه لو كان سمع أو شهد أن «محمد» قد سرق أفكاره من أحد لما آمن به في البداية أو لفضحه بذلك عند النجاشي ومطارنته، وبخاصة في ذلك اليوم المشهود، يوم المناظرة التي أقيمت في بلاط الإمبراطور الحبشي بين المسلمين المهاجرين وبين رسولي قريش بحضور كبار رجال الدين هناك. وعلى أية حال فلا يمكننا أن نغفل أن زوجته، وهى أم حبيبة بنت أبي سفيان، أحد زعماء الكفر في ذلك الحين، لم تتابعه في ارتداده، بل ظلت متمسكة بدينها. ليس هذا فقط، بل عقد عليها الرسول وهى لا تزال في الحبشة وأناب عنه النجاشي رضي الله عنه، وكان قد أسلم، في عقد نكاحه عليها بعد وفاة زوجها (213). وأم حبيبة هذه هي التي استنكفت أن يلمس جسد أبيها فراش رسول الله حتى لا ينجسه، وصارحته بذلك، وكان أبوها حينذاك قد أصبح هو الزعيم الأوحد لمعسكر الكفر والطغيان. فلعل هذا كله يعطيك فكرة عن قيمة ارتداد عبيد الله بن جحش في بلاد النجاشي، الذي صدق هو نفسه بالدين الجديد. وكي تزداد ضآلة قيمة ارتداده وضوحا أحب أن أذكر لك أنَّ كل إخوته قد أسلموا، وهم عبد الله (وقد استشهد في أحد)، وأم حبيب (زوجة عبد الرحمن بن عوف) وزينب (زوجة زيد بن حارثة ثم الرسول من بعده). وفضلا عن ذلك فإن أحد هؤلاء الإخوة وهو عبد (أبو أحمد) كان ضريرا، ولم يمنعه ذلك من مناصرة الإسلام والهجرة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير