تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

يا فاسق». حتى ابنه كذبه واتبع «محمدًا» عليه الصلاة والسلام، وحارب في تلك المعركة نفسها جنديًّا في صفوف المسلمين واستشهد فيها. وهو «حنظلة» المسمى «غسيل الملائكة»، رضي الله عنه رضًا واسعًا (219). كذلك هل يمكننا أن نلحق بالحنفاء أيضا «أبا قيس صرمة بن أبي أنس»، الذي ترهب في الجاهلية ولبس المسوح وفارق الأوثان، وهمَّ بالنصرانية ولكنه أمسك عنها وأخذ يعبد الله على دين «إبراهيم» عليه السلام حتى هاجر الرسول إلى المدينة فأسلم رغم أنه كان شيخًا كبيرًا، وطفق ينافح عن الإسلام بأشعاره الحسان (220). فمن هذا العرض نخرج بالنتيجة التالية: أن بعض هؤلاء الحنفاء قد أسلموا، ومن لم يسلم منهم انحاز إلى أحد الأباطرة لمصلحة له، ولم يتابعه حتى أقرب المقربين إليه بل دخلوا في الإسلام واتبعوا «محمدًا» عليه الصلاة والسلام. أما «زيد بن عمرو بن نفيل»، فقد رأينا ابنه وأقرباءه يصدقون بالنبي ودعوته ويفدونهما بالنفس والنفيس. وقد عرفنا من أمر «أمية بن أبي الصلت» ما عرفنا، فما دلالة هذا كله؟ أترك ذلك للقارئ ليحكم هو بنفسه على مفتريات المستشرقين التي لم يفكر في توجيهها إلى «محمد» صلى الله عليه وسلم مجرد تفكير أيُّ واحد من معاصريه بالغًا ما بلغت عداوته له.

إن أحدا من هؤلاء الحنفاء لو شعر أن «محمدًا» إنما هو دعي نبوة لا نبي حقيقي لادعى هو أيضا النبوة. ولا يصحن أن يقول قائل: ولكن لقد ظهر فعلا متنبئون مثل «مسيلمة» و «طليحة»، أفليس هذا كافيا؟ لا يصحن أن يقول قائل هذا لأن سير هؤلاء المتنبئين كافية عند العقلاء لرفضهم ورد ادعائهم: ف «الأسود العنسي» مثلا كان بطاشا جبارًا. وقد أسلم لما أسلمت اليمن ثم ارتد أول واحد، ولكنه قتل بعد تنبئه بأربعة أشهر فقط. وسبق أن ذكرنا الدور الذي قامت به زوجته في عملية اغتياله. ولا أظن في هذه المعلومات عن شخصيته وحياته وموقف زوجته منه ما يدعو عاقلا إلى تصديقه، وبخاصة أنه أسلم ثم ارتد وتنبأ، إذ ليس هذا فعل الصادقين بَلْه رسل الله (221). وأما «مسيلمة» فقد أسلم أيضا، لكنه لما رجع إلى اليمامة ارتدَّ وتنبأ قائلًا: «إني اُشْرِكْتُ في الأمر معه» (أي أنه شريك لمحمد عليه الصلاة والسلام في النبوة) وهي كلمة تمحق ادعاءه محقًا، إذ هي اعتراف منه لمحمد عليه الصلاة والسلام بالنبوة، ومحمد عليه الصلاة والسلام قد كذبه تكذيبا قاطعًا. وثمة ما هو أكثر من ذلك، فقد أحلَّ لمن تابعوه الخمر والزنا وحط عنهم الصلاة (222). و قد هلك في حروب الردة: قتله «وحشي» (قاتل حمزة رضي الله عنه في أحد)، واشترك معه في قتله رجل من الأنصار (223). وكان قد تزوج «سجاح» المتنبئة، فأقامت معه قليلا. وكانت قد نزلت اليمامة بجيش كبير، ولكنها لما أدركت صعوبة الإقدام على قتال المسلمين انصرفت راجعة إلى الجزيرة (بالعراق)، ثم لما بلغها قتل «مسيلمة» أسلمت. وعند وفاتها صلى عليها والي البصرة من قبل معاوية بن أبي سفيان. وأظن أن في هذا معنى لمن يريد أن يعرف حقيقة «مسيلمة» وحقيقة «سجاح» (224). ويبقي «طليحة الأسدي»، وقد أسلم قبل تنبئه كما أسلم زميلاه في التنبؤ: «مسيلمة» و «الأسود»، لكنه لما رجع مع وفود قومه بني أسد إلي بلادهم ارتد وادعى النبوة. وقد هزمه «خالد» في عهد «أبي بكر الصديق» رضي الله عنهما فهرب إلى الشام، ثم عاد إلى الإسلام في عهد «عمر» وأبلى بعد ذلك في الفتوح الإسلامية بلاء حسنا حتى استشهد في «نهاوند» (225). وها أنت ذا ترى أن اثنين من هؤلاء المتنبئين لم يكملا الطريق وعادا إلى الإسلام، أما الاثنان الآخران اللذان هلكا فقد أسلما أولا ثم ارتدا وتنبآ، وليس هذا بفعل الأنبياء الحقيقيين.

وهناك مصدر آخر يلمح بعض المستشرقين إلى أن الرسول كان يمتح منه أحيانا، وهو «عمر بن الخطاب». فهذا «مكسيم رودنسون» يقول: «وقد افتخر «عمر» في براءة بأن ثلاثًا من نصائحه قد وافقت الوحي على نحو معجز» (226). وإن عبارتَيْ «في براءة» و «علي نحو معجز» تدلانك وحدهما على ما يريد هذا المستشرق أن يقول، حتى لو لم تعرف أنه غير مسلم وأنه يرجع الوحي إلى مصدر بشري. وإني في الوقع لست أدري لم يعتقد «رودنسون» وأمثاله أن الوحي لا بد أن يخالف كل فكرة أو اقتراح بشري؟ إن البشر ليسوا على كل حال شياطين، بل فيهم من روح الله كما يقول القرآن، فإذا توافقت أفكار بعض الصحابة

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير