والحقيقة إنه لا تخلو آية من كتاب الله من إشارات علمية، لكن مدارك البشر تفاوتت في الوقوف عند نكتها؛ ذلك لكون القرآن الكريم كتاب علم قبل كل شيء: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [آل عمران19]. {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14]. {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} [الجاثية17].
فالقرآن الكريم كله كتاب علم بامتياز، وهذا سر إعجازه العلمي، قد يتأثر البلاغي بنظم القرآن وينثر درره ويقول قائل ليته لم يسكت، أما إذا خاض القول عن اللفظ الحابل فحدث ولا حرج؛ وذلك لكون البلاغة علما من علوم اللغة بها يتوصل إلى إدراك معاني النص وجمالية تراكيبه. وما الإعجاز البياني إلا إعجاز علمي تم إدراكه بواسطة علم البلاغة.
وهكذا يخوض كل صاحب علم في مجاله، ويتوقف عند كل نص قرآني أو حديث نبوي يتعلق بتخصصه، على أننا نربأ بأحبتنا أن لا تنغمس أقلامهم في الكلام عن الإعجاز العلمي، إلا فيما أصبح حقيقة علمية يقينية؛ لكون أصحاب التجارب العلمية يقولون قولا اليوم ثم ما يلبثون إلا قليلا حتى تسفر أبحاثهم عن تأكيد قول ناسخ لقولهم السابق. {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [سبأ: 6].
ومن محاذير هذا الباب أقوال المتكلمين عن الإعجاز الرقمي في القرآن فقد تتأتى تلك الدراسة على قراءة قرآنية دون أخرى وهو ما يربك القارئ وبخاصة غير المتخصص، فكيف يئول سعي الفتان؟.
وقبل معالجة الموضوع إعجاز القرآن في شقيه الروحي والتشريعي نبحث ضمن مقدمات مواضع تيسر الكلام عن جوهر إعجاز القرآن تتناول الأمور التالية:
1 - الغاية من الإعجاز القرآني؛
2 - ما القدر المعجز من القرآن؟؛
3 - نموذج إعجاز الكلمة القرآنية؛
4 - بين القول بالإعجاز البلاغي وتعليم الناس الكتاب والحكمة؛
5 - القرآن الكريم واتصافه ببعض أسماء وصفات الله جل ثناؤه؛
6 - بين تعليم الكتاب والسعي في معاجزته؛
7 - هل نقبل القول بالإعجاز العلمي للقرآن أو بالأحرى التفسير العلمي للقرآن أم نرده؟؛
8 - الإعجاز العلمي بين المتخصصين واللغويين؛
لنصل لتحقيق الموضوع
ـ ما هو جوهر الإعجاز العلمي في القرآن الكريم؟
1. سر روحه وقوة تأثيره؛
1 - الغاية من إعجاز القرآن
لم بكن الهدف من الإتيان بالإعجاز إجبار الناس وإخضاعهم بقبول دليل خارق للعادة، وإنما يأتي الإعجاز ليقيم برهانا يقينيا على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليمكنهم من اختيار بين سبيل الهدى وسبيل الضلال ليختاروا بمحض إرادتهم إحدى السبيلين عن رضا واطمئنان؛ إذ لو شاء الله لأنزل آية فظلت أعناقهم لها خاضعين.
وإنما تجلى الإعجاز القرآني في تحديه للخلق في مجالي الروح والتشريع؛ ذلك بكون مجالي الخلق والأمر من اختصاص الله دون من سواه.
التحدي في مجال الخلق:
يأتي القرآن الكريم باستفسار استنكاري يستدعي العقول للتدبر ويرفع التحدي على كل مستوى؛ إذ يستدعي كل البراهين سواء منها العقلية أو العلمية أو أي دليل من الكتب السابقة: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4].
التحدي في مجال التشريع
فالرب الحكيم العليم يوجهنا بلطف رحمته بأن أهدى كتاب هو القرآن الكريم وهو أرحم تشريع عرفته البشرية:
? {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [القصص: 49].
? {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [يونس: 35].
¥