واعتبر في ذلك أيضا من باب المخالفة كيف أن السموات والأرض كادت أن تتفطر لمجرد سماع فرية في حق الله جل جلاله، {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً [90] أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً [91] مريم.
وهكذا تبرز قوة وقدرة القرآن العظيم، وما أسبغ الله عليه صفة العظمة؛ إلا لكونه كلام الله، العلي العظيم الذي خضع له ما في السماوات والأرض، واستمداده قوته من قوة الله وقدرته الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء سبحانه وهو الله الواحد القهار.
وقال الشنقيطي رحمه الله عند آية المزمل:
"أثبت تعالى لهذه العوالم إدراكاً وإشفاقاً من تحمل الأمانة، بينما سجل على الإنسان ظلماً وجهالة في تحمله إياها، ولم يكن هذا العرض مجرد تسخير، ولا هذا الإباء مجرد سلبية، بل عن إدراك تام ... وفي الحديث: {لا يسمع صوت المؤذن من حجر ولا مدر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة} 2 فبم سيشهد إن لم يك مدركاً الأذان والمؤذن".3
حقيقة قوة القرآن وثقله
فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ َوجَاهِدْهُم بِهِ جِهَاداً كَبِيراً [الفرقان: 52]
رأينا بأن المفسرين تكلم كل منهم بما تفاعل به مع روح القرآن وحججه الدامغة، ولله الحجة البالغة، لكنهم لم يلتفتوا إلى أن القرآن قول فصل لا هزل فيه، وأنه كلمات تامات لا يجاوزهن بر ولا فاجر، وإن أومئوا إلى ذلك في محله إيماءات شاردات لا يلتفت إليه الذهن، ولا يجمعها جامع يرفعها إلى أن تصبح ضابطا لسداد الأمر وصوابه، ومقياسا يكشف فساد الرأي وضلاله.
فهل أدرك بعض المتكلمين -ومن ورائهم بعض الفقهاء- جهلهم العميق بحكمة الحكيم وهم يصرحون بأن الله يفعل الأشياء لا لحكمة وأن أفعاله لا تعلل؟ أليس القرآن تنزيلا من حكيم حميد؟ فما معنى اسمه الحكيم؟
فمن يؤمن بأن لا رب سوى الله جل جلاله خالق الكون والمخلوقات هو المهيمن على الكون برمته، وهو حي قيوم، يدرك بأن كونا منسجما وفق معطيات علمية جد دقيقة لا يمكن للعبثية أن تتدخل في نظامه كان عليه أن يسعى جادا لإدراك قوانين سننه، حتى لا يتعرض لحتف بجهله لنواميس الكون.
ولم تكن تلك رغبة نابعة من إرادة الإنسان وحسب، بل ذللها الله له وسخر له ضوابطها ليتحرك على بينة وعن علم كي ينسجم سيره وفق ضوابط الكون. ?يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ? [النساء: 26].
إن من يطالع إرادة الدول في سيرها وفي السبل المعتمدة لتحقيق رغباتها يدرك جيدا بأن البشرية تتخبط خبط عشواء في منهج تخطيطاتها؛ فمن مخططاتها ما يتحقق ومنها ما ينقلب عكسا ووبالا على أصحابه.
ما التفتوا بأن للكون قوانين صارمة يمضي على نهجها، فمن وافقها تحققت أغراضه، ومن خالفها تعطلت مشاريعه. إن الكون لا يمشي إلا وفق إرادة ربه، لا وفق إرادة مؤمن كان أو كافر.? لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً? [النساء: 123].
قوة القرآن شموخ في عزة وإيمان
بعكوف المؤمن على باب ربه ليخرج على الناس من المحراب داعيا إلى سبل المرحمة، متواصيا بالحق، حافظا لحرمات الله ولحدوده، منظره جذاب وفي سمته آية للناظرين، غير مكترث بما تزين به المنافق من هندام، وما اعتز به من أثاث، كلامه اللين صواعق تخرق السكون، وتتصدع له قلوب الظالمين، لا يطرق قلبه خشية الناس كأنه وهو مخلوق من جلد ودم يحس ويشعر تحوله إلى مجرد روبو لا تطرف له عين من تهديدات الظالمين، ولا يقعقع له بالشنان، ولا يأبه بكل صنوف الحروب سواء منها الحروب النفسية أو غطرسة وطغيان المستكبرين، سلاحه الاعتزاز بالله ربا وبدينه منهجا وسطيا وبنبيه قدوة وأسوة.
ثبات أولي العزم من الرسل
¥