تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

- وهم يتظاهرون بحماية تاريخ الأمة وتراثها ودينها، ويرفعون الشعارات الدينية، ويحضرون الحفلات الدينية ويصلون، ويبنون المساجد، ويرفعون شعارات حماية الدين والوطن، ولكن في الخفاء يسخرون من كل ذلك، بل إنهم يدنسون مقدساتها ويدمرون مناهجها، ويسدون منافذ الإصلاح ويفتحون بوابات للفساد، والجهل والمرض، والجوع والقمع والكبت.

- وطبعاً يوظفون لذلك كل الفاسدين، ويجعلون منهم رموزاً، ويلبسونهم ألبسة النخبة، ويدهنونهم بألوان من مراهم التلميع، ومساحيق التجميل، لكل الشرائح الاجتماعية، فللمتدينين شيوخ السلطان بعمائهم الضخمة، وجببهم العريضة، وللمثقفين نُخبٌ من المتفلسفين العملاء المدربين على حبك الإشكالات، وسفطة الحقائق، وتحليلها بأشكال تخدم التوجهات السلطانية وتقدم بعض التسكين للشباب الذي يُخشى أن يكون طموحاً. أما لعموم الناس فيقدمون النجوم الإعلامية المختلفة من فنانين وفنانات، وممثلين وممثلات، وكثيراً ما يُفتح المجال لهؤلاء للنقد غير المحدود، لأنه في النهاية مجرد تمثيل، لا يضر بأمن السلطان، ويساعد المشاهدين على تبديد الشحنات المكبوتة، واستفراغ الغصات المحزونة.

ولذلك فالحكام العرب اليوم هم مجرد ولاة وخدم ينفذون الأوامر بمجرد الإشارة ولا حاجة للتصريح، وهم لا يفكرون بشعوبهم، ولا يعيشون معهم، ولا يهمهم إن كنت هذه الشعوب جائعة أم جاهلة أم مُضطهدة، أو لها مستقبل أو لها تاريخ، لأن الهم الأكبر بالنسبة للحكام المتخاذلين - وأرى أن هذه الكلمة قليلة بحقهم لأنهم، لم يكونوا في أي يوم حريصين على مصالحها ومستقبلها - الهم الأكبر هو الحفاظ على الكرسي والكراسي الوريثة، له ولذريته ولحاشيته وزبانيته المقربين.

ولذلك تجد أن الإبداع الوحيد في بلادنا العربية والذي يتميز به الحكام العرب عن بقية حكام العالم هو قدراتهم الفائقة في اختراع وسائل الكبت والتعذيب والترويع والاستبداد والتجهيل، ولو كانت هناك جوائز تُعطى لمثل هذا اللون من الإبداع فأعتقد أن حكامنا هم أحق الناس به.

ولا شك أن من لوازم هذه التميز هو قدراتهم النادرة على الخداع والتضليل والكذب، فيعكسون الصورة الجهنمية الحقيقية لهم إلى صورة فردوسية مزيفة، إنها في الحقيقة وصية مكيافللي لتلاميذه النخلصين، "" يجب على الحاكم أن يكون ماكراً مكر الذئب، ضارياً ضراوة الأسد،غادراً غدر الثعلب، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير، وأن يرتكب الشر والفظائع أحياناً-، ويقترف الإساءات ويسير على مبدأ " فرق تسد "، من أجل المحافظة على سلطانه "". ([6]) ويضيف الأستاذ مكيافللي "" ولكن على الحاكم في نفس الوقت أن يُخفي هذه الصفات المرذولة، ويكون دَعِيّاً ماهراً ومرائياً كبيراً وأن يحسن التظاهر بالأوصاف الحميدة والتدين الشديد "" ([7]).

ولذلك نجد الحكام يحضرون المناسبات الدينية وإلى جوارهم أصحاب العمامات السلطانية يسبحون بحمدهم ويباركون جهودهم، ويدعمون جبروتهم، إن فلسفة مكيافللي وكتابه الأمير قد وجد صداه في حكامنا " الميامين " فقد حفظوه عن ظهر قلب، لأنه كتابهم المقدس، وقد نفذوا تعاليمه بإحكام وأمانة.

الدرس الرابع

كلمة حق عند سلطان جائر

ومن هنا فالحديث الدائر منذ زمن عن مشروعية الخروج على الحكام، وهل هم كفرة أم مسلمين أم منافقين أم شياطين أم سعادين؟! لا أرى أنه سار في الطريق الصحيح، لأن حكامنا يجب الخروج عليهم حتى لو أقاموا الصلاة، وأدّوا الزكاة، وحجوا إلى بيت الله الحرام، لأن هذه المظاهر الدينية لا تشكل خطراً على مصالحهم، ولا مصالح أسيادهم، بل لعلها تعزز أهدافهم وغاياتهم حين تتحول إلى شكليات وحركات خالية من المضامين الجوهرية.

إن الحكام العملاء والمتآمرين على واقع الأمة ومستقبلها يجب الخروج عليهم، ورفع السيف في وجوههم، لأنهم خانوا أمتهم، وسرقوا خيراتها، ونهبوا ثرواتها، ودمروا شعوبهم، وحطموا مبدعيها، وكبحوا طموحاتها، وانحازوا إلى أعدائها وتعاونوا معهم في القتل والتجويع والتجهيل والقمع والاضطهاد، لكي تظل الأمة ضعيفة خانعة مُستذَلّة لا تجد أي نافذة للنهوض والتقدم.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير