تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لقد روعتنا أيها السادة مظاهر القتل والإجرام في غزة الأبيّة، ولا يوجد إنسان فيه ذرّة إنسانية إلا وشده عقله، واحترق قلبه لفظاعة ما رأى وشاهد، هناك أناس ماتوا لشدة الصدمة لم تحتمل نفوسهم هذه المناظر، وهناك أناس تفاقمت بهم الأمراض وثارت فيهم الجروح، ويتحدثون عن خمسة آلاف جريح: لكن الحقيقة كما قال الدكتور عزمي بشارة أن هناك ثلاثمائة مليون جريح، لأن كل إنسان عربي جُرحت كرامته، بل لعلي أضيف إلى ما قاله بشارة إن هناك مليار جريح من المسلمين في العالم، ولكن المقاومة بحمد الله عز وجل بانتصارها قد ضمدت الجراح، وداوت القلوب.

ولكن أيها السادة والسيدات لو أننا لم نر ما رأيناه لما خرجنا إلى الشوارع، بمعنى لو أن الجريمة لم يكن هناك إعلام ينقل لنا صورها ومشاهدها المروعة لما رأينا الناس يخرجون بالملايين ينددون بالحرب، ويطالبون بوقفها، إذن فقد كان للصورة المرئية الأثر الأكبر في تحريك الضمير العالمي الإنساني.

فما رأيكم إذن أن هناك قتلاً صامتاً ليس له صور فظيعة تستثير الرحمة، وليس له مشاهد مروّعة تستدر الشفقة، إنه قتل النفوس الأبيّة، ودهس الكرامات النبيلة، وتحطيم المشاعر الإنسانية، وتدمير إنسانية الإنسان في داخل قفصه الجسدي، إنه قتل بلا دماءٍ مسكوبة، وتقطيع بلا أشلاء ممزقة، وتحطيم بلا عظام مكسّرة، نزيف في الداخل لا يراه أحد، وجروح غائرة في القلب لا يشعر بها أحد، وآلام وأحزان لا يلاحظها البشر:

فقاتل الجسم مقتول بفعلته وقاتل الروح لا تدري به البشر.

ما هو أيها السادة؟

- إنه الفقر الشديد الذي يلفّ شرائح واسعة في مجتمعنا، إنه الحاجة والعوز، إنه الظلم الذي يتعرض له الناس في حقوقهم وشؤونهم.

- إنه الإهانة التي تتعرض لها من موظف تافه يتحكم بك ذهاباً وإياباً، ويعرقل شؤونك، ويعطل مصالحك، ويدمر وقتك، ويأكل مالك ظلماً وعدواناً.

- إنه المريض الذي يبتزّه الأطباء المجرمون، فلا يتركون جسده فريسة للموت، إلا بعد أن يفترسوا جيبه وماله.

- إنه الاستبداد والتخلف الذي تكتوي به مجتمعاتنا ظاهراً وباطناً في كل جوانب الحياة.

- إنه القهر والقمع الفكري والديني والاجتماعي والإداري الذي نصطلي بناره ليل نهار. وأقصد بالقمع الفكري بعض المفكرين الذين يتلاعبون بفكر الأمة ويعبثون بمقدساتها مدعومين بالإمبريالية والصهيونية العالمية. وأقصد بالقمع الديني أصحاب العمائم السلطانية الذين يحلون الحرام، ويحرمون الحلال مثل شيخ الأزهر سيد طنطاوي وأمثاله. وأقصد بالقمع الاجتماعي: النفاق الاجتماعي الذي يرفع الوضيع، ويضع الرفيع، ويعز الذليل، ويذل العزيز، ويقدّم الرويبضة، ويؤخر الشريف.

أيها السادة والسيدات: نريد الكرامة للإنسان، لأنه إنسان فقط، لأنه ابن آدم، وآدم من تراب، ولأننا جميعاً كذلك. نريد له الكرامة والعزة لأنه عبد لله عز وجل - أياً كان- حتى لو كان ملِك ملوك الدنيا، فهو في النهاية يتساوى مع أدنى البشر مكانة في العبودية لله عز وجل، نريد الكرامة والمساواة للإنسان ليس لأنه وزير أو مدير أو عضو في مجلس الشعب، أو عالم شهير، أو شيخ كبير، أو وجيه جليل، أو دكتور أو مهندس أو محامي أو غني يترهل ثراء، أو لأنه فلان أو ابن فلان، أو يعرف فلان، نريد الكرامة للإنسان فقط لأنه إنسان، هذه الكلمة التي لا يقيم لها أحد وزناً، وقد قال ربنا عز وجل:

] وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [[سورة الإسراء آية: 70].

الدرس التاسع

التفاؤل والأمل

ومع كل ذلك فالأمة بخير أيها السادة - بحمد الله عز وجل - وهي تدرك قضاياها بشكل كبير، وتعي المؤامرات التي تحاك ضدها، وأخذت تتفاعل وتتملل من هذه الكوابيس الجاثمة على صدورها، ولا بد أن تنتفض لتزيح هذا الركام العفن من التخلف والاستبداد الذي طال حبسه لأنفاسها، وخنقه لطاقاتها، وتعطيله لتقدمها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير