تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإن ياقوت الحموى حين ساق هذه الحكاية (فى ترجمة الحسن بن على بن أبى مسلم من كتابه: "معجم الأدباء") قد أضاف فيها أن ابن المقفع "كان من أولاد كسرى"، وهذا ما لا أستطيع أن أتذكر أنى قرأته عند سواه، وإن كان ف. جبرييلِّى ( F. GABRIELI ) كاتب مادة "عبد الله بن المقفع" فى " The Encyclopaedia of Islam : دائرة المعارف الإسلامية" (الطبعة الجديدة) قد نص على أنه ذو أصل فارسى نبيل.

والغريب أن يرتب الدكتور شوقى ضيف على خبر تمثُّل ابن المقفع ببيتَىِ الأحوص أن فيه ما قد يشير إلى أنه ظل على ديانته القديمة، وأنه قد مضى ينقلها هى وعقائد الملحدين إلى لغة العرب (انظر كتابه: "العصر العباسى الأول"/ ط16/ دار المعارف/ 509 - 510). ثم يضيف الأستاذ الدكتور قائلا إنهم لهذا قد اتهموه بمعارضة كتاب الله كما جاء فى كلام الباقلانى فى كتابه: "إعجاز القرآن"، إذ وصف "الدرة اليتيمة" قائلا إنها كتابان: أحدهما يتضمن حِكَمًا منقولةً، والآخر فى شىء من الديانات، وإن كان قد انتهى إلى أن ابن المقفع لم يترك كتابا يعارض فيه القرآن، وهو ما وصلنا إليه بعد الفحص والتمحيص كما سيرى القارئ بنفسه.

وهذا كلام الباقلانى بنصه وفصه: "وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن. وإنما فزعوا إلى "الدرة اليتيمة"، وهما كتابان: أحدهما يتضمن حكما منقولة توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل، فليس فيها شيء بديع من لفظ ولا معنى. والآخر في شيء من الديانات، وقد تهوَّس فيه بما لا يخفى على متأمل. وكتابه الذي بيناه في الحِكَم منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة، فأي صنع له في ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به؟ وبعد، فليس يوجد له كتاب يَدَّعِى مُدَّعٍ أنه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك فقد أصاب وأبصر القصد. ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء، ثم يَلُوح له رشده، ويَبِين له أمله، ويتكشف له عجزه. ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه لم يَخْفَ علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته. ومتى أمكن أن تَدَّعِيَ الفرس في شيء من كتبهم أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه؟ ".

وكلام الأستاذ الدكتور، للأسف، يوحى بأن الرجل قد أُجْبِر إجبارا على الإسلام، وهو ما لم يحدث البتة. ثم أين هى تلك الكتب التى ترجمها ابن المقفع من عقائد الفرس الوثنية وأفكار الملحدين رغبة منه أن ينشر الزيغ والضلال بين المسلمين؟ هل يصدق عاقل أن أحدا فى ذلك الوقت كان يجرؤ على نشر الكفر والترويج لديانات فارس الوثنية فى كتب يقرؤها الناس جميعا ثم يسكتون عما فيها؟ إن الكلام ليس عليه ضريبة، والمهم الحجة والوثيقة؟ فأين هذه أو تلك؟ فإذا نظرنا فوق هذا فيما كتب الرجل وألفيناه يكتب كما يكتب المسلمون ويمجد الله كما يمجدونه، بل إذا نظرنا بعد ذلك فألفيناه يثنى على العرب، وهو الفارسى، وكان يستطيع أن يصنع صنيع غيره من الشعوبيين الذين وضعوا الكتب فى ذمّهم وتشويه تاريخهم ورجالهم وتقبيح مفاخرهم لكنه لم يفعل، كان ذلك كله دليلا آخر على أنه كان مسلما صادق العقيدة. أليس كذلك؟

وأغرب من ذلك جميعه أن الأستاذ الدكتور، مَثَلُه مَثَلُ القدماء الذين يوردون فى ترجمة ابن المقفع ما لا يتسق بعضه مع بعض، يعود فيؤكد مثلهم أن ابن المقفع، رغم زندقته، "كان نبيل الخلق وقورا يترفع عن الدنايا ولا يجعل للهوى سلطانا على عقله، وكان يأخذ نفسه بكل ما يمكن من خصال المروءة والشعور بالكرامة". ثم يمضى رحمه الله فينقل ما قيل عن أريحية نفسه وحرصه على مقتضيات اللياقة والذوق والاعتداد بالنفس. فهل يمكن اجتماع مثل تلك السجايا النبيلة مع ما قاله عن نفاقه وخبث طويته؟ الحق أن هذا وذاك لا يمكن أن يجتمعا فى قلب رجل واحد! وبالمثل يُحْكَى عن الأصمعى أنه قد "قيل لابن المقفع: من أدَّبك؟ فقال: نفسي. إذا رأيت من غيري حسنا أتيته، وإن رأيت قبيحا أبيته"، وهو ما لا نجد تعقيبا عليه أفضل مما علقنا به على كلام الدكتور شوقى ضيف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير