تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهناك رواية أخرى للسياق الذى تمثل فيه ابن المقفع بهذين البيتين أوردها صاحب "الأغانى" خلال ترجمته للأحوص الشاعر الأموى، قال: "وقال الخراز في خبره: حدّثني المدائني، قال: أُخِذ قوم من الزنادقة، وفيهم ابن لابن المقفع، فمُرَّ بهم على أصحاب المدائن. فلما رآهم ابن المقفع خشي أن يسلم عليهم فيُؤْخَذ، فتمثل:

يا بيت عاتكةَ الذي أتعزَّلُ * حَذَرَ العِدا، وبه الفؤاد مُوَكَّلُ

... الأبيات، ففطنوا لما أراد، فلم يسلموا عليه، ومضى". أى أنهم لم يكتفوا بزندقة ابن المقفع، بل أضافوا ابنه إليه فى هذا الانحراف، وزادوا على ذلك تصويره بقساوة القلب وتحجره، فهو لا يبالى بما وقع فيه ابنه من مصيبة، بل كل همه أن يخرج من الأمر سالما. وهو ما يخالف ما كان معروفا عنه من الشجاعة والجرأة واستعداده للتضحية بحياته فى سبيل إنقاذ عبد الحميد الكاتب على ما تحكيه الروايات.

وهذه هى القصة كما نقلها الوطواط فى "غُرَر الخصائص الواضحة وعُرَر النقائص الفاضحة" عن كتاب "الوزراء" للجهشيارى. قال: "إنه لما تفرق الأمر عن مروان بن محمد الجعدي طُلِب عبدُ الحميد بن يحيى كاتبُه، وكان صديقا لعبد الله بن المقفع. ففاجأه الطلب وهما في بيت، فقال الذين دخلوا عليهما: أيكما عبد الحميد؟ فقال كل واحد منهما: "أنا" خوفا أن ينال صاحبَه مكروه. وخَشِىَ عبد الحميد أن يسرعوا إلى ابن المقفع بما يكره، فقال لهم: تثبَّتوا، فإن في عبد الحميد علامات يُعْرَف بها، فأرسِلوا إلى مرسلكم من يستوصفها منه. فأينا وجدتموها فيه فخذوه. ففعلوا، فوصف لهم عبد الحميد بعلامات اشتمل عليها بدنه، فأُخِذ وحُمِل إلى أبي العباس السفاح، فوَلِيَ عقوبته عبد الجبار بن عبد الرحمن، فكان يحمي له طستا ويضعه على رأسه. فلم يزل يفعل به ذلك حتى مات. وقيل غير ذلك".

وفضلا عن ذلك فإن حكاية تمثُّل ابن المقفع بالبيتين المذكورين حين رأى ابنه مع جماعة من الزنادقة المقبوض عليهم تُقَدِّمه لنا بصورة الأحمق الذى يستر الله عليه فيأبى إلا أن يهتك ذلك الستر، إذ كانت الحصافة تقتضى ألا يفتح فمه على الإطلاق ما دام خوافا إلى حد أن يتجاهل ابنه فى مثل ذلك الموقف العصيب نجاة بنفسه، ولتذهب الدنيا كلها بعد ذلك إلى الجحيم. إلا أن حماقته لا ترضى بأقل من أن تعلن عن موقفه بصوتٍ يسمعه كل من هناك. صحيح أننا نفهم من سياق الكلام أن أحدا لم يفهم عنه ما أومأ إليه إلا المتهمين وحدهم. إلا أن هذه حيلة ساذجة جدا لا تنطلى على أحد ممن يقرأونها. وعلى كل حال من يا ترى أخبر الناس أنه كان يقصد إلى ما تريد الحكاية إقناعنا به ما دام أحد غير المقبوض عليهم لم يفهم عنه ما كان يدور فى نيته؟ لا شك أن القارئ يرى معنا كثرة الثغرات فى تلك القضية برمتها.

ولا يقف التربص بالرجل وبما يقول أو يعمل عند هذا الحد، إذ نقرأ فى "أمالى المرتضى" رواية عن"أحمد بن يحيى ثعلب، قال: قال ابن المقفع يرثي يحيى بن زياد، وقال الاخفش: والصحيح أنه يرثى بها ابن أبى العوجاء:

رُزِئْنا أبا عمرو، ولا حيَّ مثله * فلله ريب الحادثات بمن وقعْ

فإن تك قد فارقتَنا وتركتَنا * ذوي خُلَّةٍ ما في انسدادٍ لها طمعْ

لقد جرَّ نفعًا فقدُنا لك أننا * أَمِنّا على كل الرزايا من الجزعْ

قال ثعلب: البيت الاخير يدل على مذهبهم في أن الخير ممزوج بالشر، والشر ممزوج بالخير". أرأيت أيها القارئ كيف تكال الاتهامات دون أدنى مسوغ، بل بعكس كل المسوغات؟ إننا بهذه الطريقة لأَحْرِيَاءُ أن نُورِد الخلق جميعا موارد الجحيم دون أدنى فرصة لإفلات أى إنسان من ذلك المصير المرعب الشنيع. وهل هناك فى الدنيا خير محض أو شر محض تمام التمحُّض؟ إن الرجل، إذا صح أنه هو صاحب البيتين، ليقصد أن ألم فقد ذلك الصديق هو من الشنع بحيث إنه قد أضحى مستعدا لتحمل أى ألم آخر دون أن يبالى، وأن أى ألم بعده لن يكون له تأثير عليه. هذا هو المعنى المراد دون لف أو دوران.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير