تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولنفترض أنه قد قصد ما قالوه، فماذا يا ترى فى هذا المعنى مما يدل على أنه لم يكن مسلما؟ إن الأمور فى حياة البشر نسبية كما نعلم، فماذا فى هذا؟ ونحن نقول مثلا: "مصائب قوم عند قوم فوائد"، فهل فى هذا القول ما يناقض الإسلام؟ وفى القرآن المجيد: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ". أم تراهم، أستغفر الله، يشككون فى هذا أيضا؟ ومعلوم أن الإنسان إذا غُمَّ عليه الأمرُ فى حِلِّيّة شىء أو حُرْمَته فإنه يوازن بين منافعه ومضاره، ثم يتخذ قراره بناء على هذه المقايسة، وإلا لكان أكل الميتة مثلا أو شرب الخمر حراما فى كل الأحوال لا مثنوية فيه حتى لو ترتب على هذا موت الشخص جوعا أو عطشا، وهو ما لا يقول به أحد، بل يقول القرآن بعكسه، إذ يجيز ذلك فى حالة الاضطرار إنقاذا لحياة الإنسان. وبالمثل فإن الكذب، وهو من الأمور الحرام، مباح بل قل: إنه واجب فى بعض الحالات التى يترتب على الصدق فيها ضرر شديد، كما فى حالة وقوع المسلم المحارب أسيرا فى يد العدو مثلا، إذ من الواجب عليه فى هذه الحالة ألا يقول الصدق عن أسرار جيش بلاده وما إلى ذلك. وهكذا يتبين القارئ بنفسه كيف أن المتربصين يلوون كل ما يقوله أو يعمله ابن المقفع كى يثبتوا، وهيهات، أنه زنديق!

وقد أورد خليل مردم فى كتابه عن ابن المقفع بيتين شعريين يدوران حول ذات المعنى، ولم ير فيهما أحد من النقاد أو علماء الدين شيئا مما رآه أولئك المتنطسون فى بيتى ابن المقفع: والبيت الأول لأعرابية فى رثاء ابنها، أما الثانى فلأبى نواس عند موت محمد الأمين فى القتال الذى نشب بينه وبين أخيه المامون حول السلطان (خليل مردم بك/ ابن المقفع/ مكتبة عرفة/ دمشق/ 1349هـ- 1930م/ 54). وهأنذا أورد كلا من البيتين فى سياقه الشعرى: قالت أعرابية:

لقد كنت أخشى لو تملَّيْت خشيتي * عليك الليالي مَرَّها وانفتالَها

فأمّا وقد أصبحتَ في قبضة الرَّدَى * فشأن المنايا فلْتُصِبْ ما بدا لها

وقال أبو نواس فى محمد الأمين يرثيه:

طَوَى المَوْتُ ما بَيْنى وبَيْنَ مُحَمَّدٍ* ولَيْسَ لما تَطْوِى المَنِيَّةُ ناشِرُ

وكُنْتُ عَلَيْهِ أَحْذَرُ المَوْتَ وَحْدَهُ * فلم يَبْقَ لى شَىْءٌ عَلَيْه أُحَاذِرُ

لَئِنْ عَمَرتْ دُورٌ بِمَنْ لا تُحِبُّهُ * لقَدْ عَمَرَتْ ممَّنْ تُحِبُّ المَقابِرُ

كذلك فابن المقفع حريص، فى "كليلة ودمنة"، على أن يضفى على الجو والسياق لمساتٍ وشياتٍ إسلاميةً واضحةً: فكثير من عباراتها مقتبَس من القرآن، وأبطالها يؤمنون بالآخرة، ومفهوم الألوهية هو نفسه مفهومه فى دين محمد، والربّ اسمه: "الله"، والدعاء له والقَسَم به يجرى على سنة الدعاء والقَسَم الإسلامى، فضلا عن وجود عدد من العقائد والمفاهيم والمصطلحات الإسلامية الخالصة كالقضاء والقدر والمشيئة الإلهية والآخرة والحساب والإحسان والصلاح والتقوى والصيام والقيام وما إلى ذلك ... وقد قلت: "كليلة ودمنة" بالذات لأنها قصص رمزية أبطالها من الحيوان، كما أن بيئتها وثنية، فهى إذن حَرِيَّةٌ ألا يظهر فيها الروح الإسلامى، ومن ثم لا يتوقع القارئ أن يجد فيها شيئا من ذلك، وإلا فمؤلفات ابن المقفع الأخرى إسلامية تماما كما سوف نرى ونلمس ذلك بأنفسنا.

وهذه شواهد من "كليلة ودمنة" على هذا الذى نقول: "فلما سمع بيدبا ذلك من الملك أفرخ رُوعُه وسُرِّىَ عنه ما كان وقع في نفسه من خوفه وكفر له وسجد. ثم قام بين يديه وقال: أول ما أقول لك: أسأل الله تعالى بقاء الملك على الأبد، ودوام ملكه على الأمد"، "رزق الله الملك السعيد أنوشروان من العقل أفضله"، "فالله تعالى يحفظك، ويعينك على ما قدمت له"، "فسجد بروزيه للملك ودعا له، وطلب من الله وقال: أكرم الله تعالى الملك كرامة الدنيا والآخرة، وأحسن عني ثوابه وجزاءه"، "فجزاه الله عنا أفضل الجزاء"، "والله ما في منزلي شيءٌ أخاف عليه"، "وما تجتمع والله هاتان الخلتان على أحدٍ إلا أهلكتاه"، "إن الله تعالى قد جعل لكل شيءٍ حدًّا يوقَف عليه. ومن تجاوز في الأشياء حدها أوشك أن يلحقه التقصير عن بلوغها. ويقال: من كان سعيه لآخرته ودنياه فحياته له وعليه"، "يجب على العاقل أن يصدق بالقضاء والقدر، ويأخذ بالحزم، ويحب للناس ما يحب لنفسه"، "وأضمرتُ في نفسي ألا أبغي على أحدٍ، ولا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير