تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والآن هل من يقول فى المولى جل جلاله هذا الكلام الذى نقلناه من كتب ابن المقفع يمكن أن يكون زنديقا يريد أن يكون الأمر لدين الفرس بدلا من دين التوحيد؟ أم هل من الممكن أن يكون ابن المقفع ممن يكرهون دين محمد، وهو الذى سمى ابنه محمدا وتكنَّى به؟ لقد كانت أمامه منادح فى مئات الأسماء الأخرى، إلا أنه تركها جميعا واجتبى لابنه اسم النبى العربى. أوليس لهذا دلالته التى يصح الاستئناس بها فى سياقنا هذا على الأقل؟ ولقد أكد محمد كرد على أن "صحة الإيمان وحب الإسلام صفتان ماثلتان فى ابن المقفع مهما تقول عليه المتقولون"، وأَنْ "ليس ابن المقفع أول من رُمِىَ بالإلحاد، فتاريخ الفكر الإسلامى يذكر أخبار من وقع اتهامهم بهذه التهمة من نوابغ الأمة، على حين كانوا أعظم أنصار الدين كالجاحظ. وفى القرون التالية اتُّهِم بهذه التهمة عشرات من كبار العلماء، وإن ما كتبوه ليشهد لهم أن أعداءهم ظلموهم فى هذه التهم، وظهر بعد أن عُذِّبوا فى حياتهم أنهم كانوا من المخلصين فى خدمة الدين، وأن أولئك الثرثارين الذين طوتهم الأرض ولا أثر لهم فى دنيا ولا دين كانوا يحسدون أولئك المؤمنين فانتقموا لأنفسهم بأن ضربوهم فى أقدس الأشياء عندهم" (محمد كرد على/ أمراء البيان/ ط3/ دار الأمانة/ 1388هـ- 1969م/ 106 - 107).

ومع ذلك كله يجازف طه حسين زاعما أن إسلام ابن المقفع "لم يكن، فيما يظهر، صحيحا ولا خالصا لله، فقد كتب فى الزندقة كتبا كثيرة اضْطُرَّ بعض المسلمين إلى أن يردوا عليها فى ايام المأمون" (من حديث الشعر والنثر/ ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين/ الشركة العالمية للكتاب/ بيروت/ 5/ 598). لكنْ ما تلك الكتب؟ وأين هى؟ وما الذى تضمنته من زندقة؟ هذا ما لم يُعَنِّ الدكتور طه نفسه بتجليته، فهو يرى أن من حقه إلقاء الحكم دون أن يجشم نفسه عناء إثباته! وفى قسم "الشخصيات" من موقع " Yatinoo " ( النسخة الفرنسية)، وتحت عنوان " Ibn Al- Muqaffa نقرأ ما يلى: " Ibn Al Muqaffa n’échappe pas aux envies et accusations, sa conversion en islam est suspecte aux yeux des orthodoxes, une conversion, parait-il, dans le but d’échapper à la mort et se rapprocher des abbassides ". ومعناه أن هناك من كان يحقد عليه ويدس له، وأن المسلمين المتشددين لم يكونوا مطمئنين إلى تحوله للإسلام، إذ كانوا يرون أنه كان يهدف من وراء ذلك التحول إلى تجنب الموت واستئناف القرب من العباسيين. ولا أدرى من أين مصدر استقى كاتب المقال هذا الكلام! ذلك أن ابن المقفع لم يكن مهدَّدًا بالقتل حتى يقال إنه أسلم كى يتفاداه. كما أنه لم يكن يعمل لدى الخليفة العباسى ثم أُبْعِد عنه حتى يقال إنه أراد العودة إليه، بل كان عمله لدى أحد أعمام ذلك الخليفة، والأمور بينهما سمنٌ على عسل.

ولصاحب هذه السطور تجربة عجيبة فى هذا السبيل تستحق أن تُرْوَى، إذ كان يشتغل فى بلد عربى منذ سنوات طويلة، وكان معه فى القسم الذى يعمل فيه بعض الأساتذة من العرب والمصريين، ومن بينهم أستاذ يسبّ الدين ويشخر ولا يذكر أمه إلا بسوأتها ولا يتورع عن ذكر ما يدور بينه وبين زوجته فى أخص خصائص العلاقة بين الرجل والمرأة ... وحدث أن كان يُعِدّ بحثا عن الألوان فاقترح عليه صاحب السطور أن يحوله إلى معجم، وساعده فى ذلك كثيرا جدا، إذ دله على عدد من المعاجم العربية المختلفة فى الزراعة والطب والجيولوجيا والكيمياء والفيزياء كان يجهلها جهلا تاما، فضلا عن بعض المعاجم الإنجليزية والفرنسية، شارحًا له كيف يبحث فى كل ذلك عن التعبيرات التى تدور حول الألوان كقولهم: "أعطاه الضوء الأخضر"، و"أضاء المدير النور الأحمر"، و"القرش الأبيض ينفع فى اليوم الأسود"، "قلبه أخضر"، "أرض السواد" ... إلخ، وزاد فأعاره ما كان عنده من معاجم بلغة الإنجليز والفرنسيس، وأراه تطبيقيا ما شرحه له نظريا، إلى جانب مراجعته ما نقله من المعاجم الأجنبية لكونه جاهلا فى اللغتين جميعا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير