تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأَدَرّ للحديث؟ فسارعنا إلى ذلك، ونزلنا عن دوابنا في دار ابن برثن نتنسم الشمال، إذ أقبل علينا ابن المقفع فقال: أي الأمم أعقل؟ فظننا أنه يريد الفُرْس، فقلنا: فارس أعقل الأمم. نقصد مقاربته، ونتوخى مصانعته. فقال: كلا، ليس ذلك لها ولا فيها. هم قوم عُلِّموا فتعلموا، ومُثِّل لهم فامتثلوا واقتدَوْا، وبُدِئوا بأمر فصاروا إلى اتباعه. ليس لهم استنباط ولا استخراج. فقلنا له: الروم. فقال: ليس ذلك عندها، بل لهم أبدانٌ وثيقة، وهم أصحاب بناء وهندسة لا يعرفون سواهما، ولا يحسنون غيرهما. قلنا: فالصين. قال: أصحاب أثاثٍ وصنعة، لا فكر لها ولا روية. قلنا: فالترك. قال: سباعٌ للهِرَاش. قلنا: فالهند. قال: أصحاب وَهْمٍ ومخرقة وشعبذة وحيلة. قلنا: فالزنج. قال: بهائمُ هاملةٌ. فرددنا الأمر إليه. قال: العرب. فتلاحظنا وهمس بعضنا إلى بعض، فغاظه ذلك منا، وامتُقِع لونه، ثم قال: كأنكم تظنون فيّ مقاربتكم! فوالله لوددت أن الأمر ليس لكم ولا فيكم، ولكن كرهت إن فاتني الأمر أن يفوتني الصواب. ولكن لا أدعكم حتى أبين لكم لم قلت ذلك، لأخرج من ظِنّة المداراة وتوهُّم المصانعة. إن العرب ليس لها أوّلٌ تَؤُمُّه ولا كتابٌ يَدُلّها. أهل بلد قفر ووحشةٍ من الإنس. احتاج كل واحد منهم في وحدته إلى فكره ونظره وعقله، وعلموا أن معاشهم من نبات الأرض، فوسموا كل شيء بسِمَته، ونسبوه إلى جنسه، وعرفوا مصلحة ذلك في رطبه ويابسه، وأوقاته وأزمنته، وما يصلح منه في الشاة والبعير. ثم نظروا إلى الزمان واختلافه فجعلوه ربيعيا وصيفيا، وقيظيا وشتويا. ثم علموا أن شربهم من السماء فوضعوا لذلك الأنواء. وعرفوا تغير الزمان فجعلوا له منازله من السَّنَة. واحتاجوا إلى الانتشار في الأرض فجعلوا نجوم السماء أدلّةً على أطراف الأرض وأقطارها، فسلكوا بها البلاد. وجعلوا بينهم شيئا ينتهون به عن المنكر، ويرغّبهم في الجميل، ويتجنبون به الدناءة، ويحضهم على المكارم، حتى إن الرجل منهم، وهو في فَجٍّ من الأرض، يصف المكارم فما يُبْقِي من نعتها شيئا، ويسرف في ذم المساوىء فلا يقصِّر. ليس لهم كلام إلا وهم يَتَحَاضُّون به على اصطناع المعروف ثم حفظ الجار وبذل المال وابتناء المحامد. كل واحد منهم يصيب ذلك بعقله ويستخرجه بفطنته وفكرته فلا يتعلمون ولا يتأدبون، بل نحائزُ مؤدَّبة، وعقولٌ عارفة. فلذلك قلت لكم: إنهم أعقل الأمم، لصحة الفطرة واعتدال البنية وصواب الفكر وذكاء الفهم. هذا آخر الحديث. قال: ما أحسن ما قال ابن المقفع! وما أحسن ما قصصتَه وما أتيتَ به! هات الآن ما عندك من مسموع ومستنبَط".

وقد ورد الخبر فى "العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسى بصورة مغايرة بعض الشىء، وفيها نص خليل مردم بحرفه تقريبا: "أبو العَيْناء الهاشميّ عن القَحْذَميّ عن شَبِيب بن شَيبة قال: كنّا وُقوفا بالمِرْبد، وكان المِرْبد مَأْلف الأشرَاف، إذْ أَقْبلِ ابن المًقَفَّع فَبشِشْنا به وبَدَأناه بالسلام، فرَدَّ علينا السلامَ، ثم قال: لو مِلتم إلى دار نيْرُوز وظلها الظَّليل، وسُورها المديد، ونَسِيمها العَجيب، فَعَوَّدْتم أبدانَكم تَمْهِيد الأرْض، وأَرَحتُم دَوابَّكم من جَهْد الثِّقل، فإنّ الذي تَطْلُبونه لن تُفَاتوه، ومهما قضى الله لكم من شيء تَنالوه. فَقَبِلْنا ومِلنا. فلما اسْتَقرّ بنا المكانُ قال لنا: أيّ الأمم أَعْقَل؟ فنظرَ بعضُنا إلى بَعْض، فقُلْنا: لعلَّه أَرَاد أصلَه من فارسِ. قُلنا: فارس. فقال: ليسوا بذلك. إنهم مَلكوا كثيرا من الأرض، ووجَدُوا عظيما من المُلْك، وغَلَبُوا على كَثِير من الخَلق، ولَبِثَ فيهم عَقْد الأمر، فما استَنْبَطوا شيئا بعقولهم، ولا ابتدعوا باقي حِكَم بنفُوسهم. قلنا: فالروم. قال: أصحابُ صَنعة. قلنا: فالصِّين. قال: أصحابُ طُرْفة. قلنا: الهند. قال: أصحابُ فَلسفة. قُلنا: السُّودان. قال: شرُّ خَلْق اللّه. قُلنا: التُّرْك. قال: كلاب ضالّة،. قُلنا: الخزَرُ. قال: بقر سائمة. قلنا: فقُل. قال: العرَب. قال: فَضَحِكنا. قال: أَمَا إنِّي ما أردت مُوافَقَتكم، ولكنْ إذا فاتَنى حظِّي من النِّسْبة فلا يَفُوتني حظِّي منِ المَعْرفة. إنّ العرَب حَكمت على غير مِثال مُثِّل لها، ولا آثارٍ أُثِرَت. أصحاب إِبل وغنَم، وسكان شَعَر وأَدَم. يَجودُ أحدُهم بقُوته، ويتَفضَّل بمَجْهوده،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير