تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ويُشَارِك في مَيْسوره ومَعْسوره، ويَصِف الشيء بعَقْله فيكون قُدْوَة، ويَفْعَله فَيَصِير حُجّة، ويُحَسِّن ما شاءَ فَيَحْسُن، ويُقَبِّح ما شاء فَيَقْبُح. أَدَّبَتْهُمْ أنْفُسُهم، ورَفعتهم هِممهم، وأعْلتهم قُلوبُهم وأَلْسِنتهم. فلم يزل حِبَاء اللهّ فيهم وحِبَاؤهم في أنْفُسُهم حتى رَفع الله لهم الفَخرِ، وبلغ بهم أشرف الذكر. خَتم لهم بمُلكهم الدُنيا على الدَّهر، وافتتح دينَه وخلافته بهم إلى الحَشرْ، على الخَيْر فيهم ولهم. فقال تعالى: "إنَّ الأرْض لله يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَاده والعَاقبَةُ للمُتَّقِين". فمن وَضَع حَقَّهم خَسِر، ومَنْ أنْكَر فضلَهم خُصِم. ودَفْع الحقِّ باللَسَان أَكْبَتُ للجَنان".

فهل قائل هذا الكلام يمكن اتهامه فى دينه او القول بأنه شعوبى يعمل على تدمير قوة العرب ودولة الإسلام وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء؟ ومع هذا فالدكتور محمد نبيه حجاب يشك فى نسبة هذا الكلام إلى ابن المقفع، وإن كان قد أضاف أنه حتى لو ثبتت صحته فإنه لم يقله من قلبه، بل أراد به تملق العرب ليس إلا، أو يكون مجرد أسلوب من أساليب الجدل النظرى لأنه فى الواقع إنما كان يبغض العرب، وإن لم يقدم الدكتور أى دليل على تنقص كاتبنا من شأن العرب سوى أنه ترجم بعض التراث الأدبى الفارسى، إذ يؤكد أنه إنما صنع هذا كى يبين لهم أن قومه أفضل منهم (انظر كتابه: "مظاهر الشعوبية فى الأدب العربى حتى نهاية القرن الثالث الهجرى"/ مكتبة نهضة مصر/ 1381هـ- 1961م/ 408 وما بعدها).

ولدينا أيضا "رسالة الصحابة"، تلك الرسالة التى وجهها ابن المقفع إلى الخليفة المنصور يعرض عليه خطة لإصلاح إدارة الدولة ونظامها القضائى والعسكرى. وسوف ألقى نظرة سريعة عليها لنرى هل فيها شىء يصلح أن يُتَّخَذ مستندا للقول بأنه كان زنديقا؟ لقد قرأت فى مقال على المشباك بعنوان "مراجعات العقل العربي بين الواقع والأمل- قراءة في فكر د. محمد عابد الجابري" لعبدالعزيز بن محمد الوهيبي ما يلى: "في حديث المؤلف (أى د. الجابرى) عن مرحلة التدوين في العصر العباسي أشار إلى ما كتبه ابن المقفع في رسالته التي سماها: "رسالة الصحابة" حيث يرى فيها، كما يرى محمد أركون، أنها ذات نفس علماني واضح! وحجتهما الوحيدة على ذلك هو أنه لم يستشهد في هذه الرسالة بالقرآن ولا بالحديث ولا بأي عنصر آخر من الموروث الإسلامي! والحقيقة أن القارئ لهذه الرسالة لا يجد ذلك النفس العلماني المزعوم، وإنما غرض ابن المقفع الدعوة لتنظيم الدولة وتوحيد القضاء منعا للاختلاط والاضطراب، وذلك باستخدام سلطة الخليفة دون أي دعوة ظاهرة أو خفية إلى تنحية الشريعة أو تقديم بديل عنها. وهو مطلب لا يوجد أي غبار عليه، ولا يعتبر مطعنا في صاحبه". هذا ما قاله الأستاذ الوهيبى، وأزيد عليه أنه لا يوجد فى القرآن ولا فى الأحاديث النبوية تلك التفصيلات الإدارية التى عالجها ابن المقفع فى رسالته، ومن ثم فليس على الرجل أى غبار من هذه الناحية. ثم إنه لم يكن فقيها، بل كاتبا من كتاب الدواوين ليس أكثر.

ومع ذلك كله نجده منذ مطلع الرسالة مباشرة يستشهد بالقرآن الكريم لدن حديثه عن يوسف بن يعقوب عليه السلام وتولِّيه خزائن مصر. وهناك أيضا قوله تعالى: "ما كنا لنهتدى لولا أن هدانا الله"، علاوة على اقتباسه بعض آيات الذكر الحكيم وصهره إياها فى كلامه. وفوق هذا فما من إشارة أشار بها على المنصور فى رسالته إلا توَّجها بذكر الله وتذكير الخليفة بما أنعم به سبحانه عليه، وهو ما لا يتمشى بأى معنى من المعانى مع دعوى علمانية الرسالة. وهناك كذلك كلامه المتكرر عن تقوى الله وهُدَاه ومصلحة الإسلام والمسلمين، وعن الآخرة ووجوب وضعها فى الاعتبار، وكذلك تعليقه كل شىء على مشيئة الله جل وعلا، وهو ما لا يقول به أو يفكر فيه علمانى. كذلك نراه دائم الحمد له سبحانه فى كل سانحةٍ تسنح. ثم ما قول القارئ فى حديث الرسول التالى الذى استشهد به ابن المقفع وجعله محور نقاش طويل حول الموقف الصحيح الذى ينبغى أن تتخذه الرعية من إمامها، وهو الحديث القائل بأنه "لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق"؟ ليس ذلك فحسب، بل إنه ليدعو إلى التمسك بالسنة والحفاظ عليها نقية صافية. كما أنه، فى دعوته إلى إصلاح نظام القضاء فى الدولة، حريص أشد الحرص على أن يجنب المسلمين

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير