تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الوقوع فى الحرام بسبب اختلاف القضاء بين محلة وأخرى فى المدينة الواحدة. فكيف بالله يزعم زاعم أن الرسالة خِلْوٌ من النَّفَس الإسلامى وأنها علمانية التوجه والصياغة؟ ثم إن كلام ابن المقفع بطول الرسالة وعرضها إنما يدور على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله والإلحاح على أن هذه هى مهمة الإمام، فكيف يجرؤ مُدَّعٍ على القول بأن ابن المقفع كان علمانيا فى رسالته؟ وقبل ذلك فالرسالة كلها من أولها إلى آخرها إنما تتقرَّى مصلحة الدولة الإسلامية وترمى إلى إصلاح أمورها فى الإدارة والقضاء وإقامتها على أساس متين يكفل لها المنعة والقوة والاستقرار، مشددا على تولية الصلحاء وأهل الدين أمور الناس. أفيمكن أن يضع علمانى مثل هذا الهدف نصب عينيه؟ وهو فى أثناء هذا يضع السُّنّة وكلام السلف طوال الوقت أمامه يستأنس بهما. ورجل يصنع هذا لا يصلح اتهامه بأنه علمانى، فضلا عن زنديق! ليس ذلك فقط، بل نراه يأسى لانزواء كثير من رجالات أهل البيت الذى ينتسب إليه أمير المؤمنين ومن رجالات قريش والعرب عامة لحساب من ليست له سابقة فى الدين ولا فى الجهاد وما إلى هذا. فكيف بالله يدعى مدّعٍ أن مثل ذلك الرجل كان علمانيا، بَلْهَ زنديقا؟

أما د. محمد نبيه حجاب فيرى فى الرسالة لونا ماكرا من الثورة على النظم القائمة. وبالمثل يفسر دعوة ابن المقفع للخليفة إلى إحسان معاملة جند خراسان بأنها تحيز منه إلى أبناء قومه من أهل فارس (انظر كتابه: "مظاهر الشعوبية فى الأدب العربى حتى نهاية القرن الثالث الهجرى"/ 412 وما بعدها). وبهذه الطريقة يقلب الدكتور حجاب كل محمدة لابن المقفع إلى مذمّة دون استناد إلى أى أساس سوى الشك من أجل الشك ليس غير، ولَىّ الأمور إلى عكس وجهها، والتعويل على الخيال فى أمور لا يصلح فيها الخيال، وافتراض الافتراضات التى لا يعجز أى شخص عن توهمها وتوظيفها لنصرة أفكاره المسبقة. ولْنُشِرْ على سبل التمثيل إلى تفسير الدكتور كلام ابن المقفع عن جند خراسان بأنه إنما يريد من الخليفة تقريب الفرس إليه، إذ يبدو وكأنه لا يعرف أن الدولة العباسية لم تقم أصلا إلا على هذا التقريب، فضلا عن تجاهله ما عبر عنه ابن المقفع من الأسى لانزواء كثير من رجالات أهل بيت أمير المؤمنين ومن رجالات قريش والعرب عامة لحساب من ليست له سابقة فى الدين ولا فى الجهاد! ولقد رأينا الدكتور حجاب يفسر الرسالة بأنها ثورة على النظم القائمة، وكان الأحرى به أن يبصر فيها شجاعة وإقداما واعتزازا بالنفس ورغبة فى إصلاح الأمور، وإلا فهل كان الثوار يلجأون فى تلك العصور إلى كتابة مثل هذه العرائض الإصلاحية، وبخاصة إذا كان هؤلاء الثوار لا يزيدون على شخص واحد لاحول له ولا طول ولا يستمد العزيمة من أحد إلا من الله ومن نفسه، وليس له جماعة سياسية يعتزى إليها ويضع يده فى يدها لتنصره فى المآزق، أو تأخذ بثاره إن عجزت عن دفع الشر عنه وقُتِل رغم أنفها؟ فليدلنا الأستاذ الدكتور إذن على سابقة أو لاحقة لهذا الذى يقول.

ولدينا أيضا إنعام الجندى، الذى لا ينكر "جرأة ابن المقفع فى مواجهة أبى جعفر بآرائه"، إلا أنه لا يستطيع رغم ذلك أن ينفى "صلته بنشاط الفرس وأهدافهم التى لم يكن أبو جعفر ليجهلها أو يغفل عنها. وهذا هو السبب الوحيد فى مقتل الكاتب" (إنعام الجندى/ دراسات فى الأدب العربى/ دار الطليعة للطباعة والنشر/ بيروت/ 42). ومن الواضح أن ما قاله الجندى لا يزيد عن أن يكون رجما بالظنون، وإلا فأين الدليل، أىّ دليل، على ما يقول؟ أما عند د. هاشم مناع ود. مأمون ياسين فقد "عرف ابنُ المقفع تدخُّلَه فى السلطة وصلتَه الوثيقة بالمسؤولين للحصول على أمور دفينة فى نفسه منذ أن كتب العهد لعيسى بن على عم المنصور. وتدخُّله هذا أدى إلى ما لا يُحْمَد عقباه لأن الجنوح مع طرف يؤدى بالضرورة إلى غرز الحزازة فى صدر الطرف الآخر" (د. هاشم مناع ود. مأمون ياسين/ النثر فى العصر العباسى/ دار الفكر العربى/ بيروت/ 1999م/ 43). ومرة أخرى لا دليل على هذا الذى يقول المؤلفان، بل مجرد أحكام مجردة يستطيع أى أحد أن يدلى بمثلها دون أية مشقة. لكن المهم هو الإتيان بالبرهان.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير