تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ونصل إلى "الدرة اليتيمة" التى قيل فى بعض الكتب إنها الكتاب الذى عارض به ابن المقفع كتاب الله الكريم. وهى فى الواقع، حسب نشرة صبيح لها بمقدمة من شكيب أرسلان، رسالة "الأدب الكبير"، ولا شىء سواه. والطريف أن ابن المقفع لا يتركنا هنيهة فى عَمَايةٍ من أمرنا بالنسبة إلى ذلك الكتاب. ذلك أنه يسارع فى مفتتحه فيقول إن السابقين يَفْضُلوننا فى كل شىء حتى فى البلاغة. فلو افترضنا مجرد افتراض أنه كان يؤمن بأن النبى هو مؤلف القرآن، على سخف ذلك الافتراض بعدما تبين لنا أن ابن المقفع كان أبعد ما يكون عن الزندقة، لقد كان يكفى أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم أسبق منه فى الزمن كى يتفوق عليه فيما يروم أن يقلده فيه طبقا للقانون الذى استخلصه هو من فهمه وعلمه وتجاربه، وهو أن المتقدمين أفضل فى كل شىء من اللاحقين، وأن منتهى علم هؤلاء هو الاقتداء بأولئك واتخاذهم مثلا أعلى ينصبونه أمام أعينهم. ولكأنه كان يكذِّب من يتهمونه بمعارضة القرآن حين نص نصًّا على أن المتقدمين لم يتركوا للمتأخرين مقالا لم يسبقوهم إليه فى الدعوة إلى الله ووعظ العباد ووصف الأخلاق الفاضلة والتزهيد فى الدنيا، وأن ما يكتبه فى رسالته هذه لا يعدو أن يكون إسهاما ضئيلا بالقياس إلى ما وضعه السابقون من جِسَام التآليف. كذلك فأول شىء يتناوله بالكلام هو الدين ورأيه فيه: "أصل الأمرِ في الدينِ أن تعتقد الإيمان على الصواب، وتجتنبَ الكبائرَ، وتُؤَدِّيَ الفريضةَ. فالزم ذلك لزوم من لا غنى له عنهُ طرفهَ عينٍ، ومن يعلم أنهُ إن حرمهُ هلك. ثم إن قدرتَ على أن تجاوز ذلك إلى التفقه في الدين والعبادة فهو أفضلُ وأكملُ".

وفوق ذلك فهو، على مدى تلك الرسالة من أولها إلى آخرها، لا يومئ مجرد إيماء، لا من قريب أو من بعيد، إلى أنه يبغى بها معارضة القرآن، ولا ادعى النبوة ولا حتى الولاية، ولا قدم نفسه إلى الناس بوصفه شخصية دينية على الإطلاق. وهذا هو مربط الفرس، وإلا فكيف نعرف أنه يريد معارضة القرآن؟ لقد قيل شىء من هذا عن كتاب "الفصول والغايات" لأبى العلاء المعرى، لكنى وجدته فى ذلك الكتاب ينافح عن القرآن ذاته منافحة صلبة، فمن ثم أنكرت بكل قوة أن يكون المعرى قد أراد معارضة القرآن وعددت ما اتُّهِم به فى هذا السبيل كلاما فارغا لا يؤبه به. وكم فى الحبس من مظاليم كما يقول المثل العامى المصرى!

ورغم أن أحدا لم يستطع أن يأتينا بشىء من أعمال الرجل وكتاباته تدل على زندقته نجد بعض من كتبوا عنه فى عصرنا يصرون على رميه بالزندقة مثل د. محمد نبيه حجاب وإنعام الجندى وهاشم مناع ومأمون ياسين. ومن هؤلاء أيضا بطرس البستانى، الذى كتب فى ترجمة ابن المقفع فى كتابه: "الأدباء العرب فى الأعصر العباسية" يقول: "فمن هنا يتضح أن زندقة ابن المقفع لا تقوم على دليل من آثاره، وإنما تقوم على أقوال الرواة والمؤرخين. على أنه غير عجيب أن يكون ابن المقفع زنديقا وهو حديث عهد بالإسلام لم يزل يحن إلى ديانته الأولى تلك التى نشأ عليها وانتحلها معظم حياته، وهو لم يُسْلِم إلا حفاظا على كرامته وطمعا فى الشهرة والجاه وتقربا إلى مواليه العباسيين. غير أن أعداءه عجزوا عن إثبات تهمته لأنه اعتصم بالتقية فلم يجاهر بكفره. ولعله كان يتنصل من الكتب التى بث فيها آراء الزنادقة وطُمِسَتْ فلم تصل إلينا. ولو استطاعوا إثبات زندقته لما عمد المنصور إلى اغتياله سرا بل كان مَثَّلَ به على رؤوس الأشهاد". وهو ما يعنى بكل وضوح أن البستانى لم يجد فى الورد عيبا فقال له: "يا أحمر الخدين"! فكأنه يستنّ بالسُّنّة التى تقول: "عنزة ولو طارت"!

ومن بين من رددوا اتهام الرجل بالزندقة من العصر الحديث د. عبد اللطيف حمزة، الذى لم يكتف بذلك، بل زاد فردّ، فى الفصل الذى خصصه فى كتابه عن ابن المقفع لتهمة الزندقة التى قُرِف بها، على من دافع عنه بأن الذين أحصوا مؤلفاته من القدماء لم يذكروها منها الكتاب الذى قيل إنه ألفه لمعارضة القرآن، قائلا إن القدماء لم يكونوا يستوعبون دائما مؤلفات من يترجمون له. إلا أنه لا ينبغى أن نُغْفِل أن الدواعى كلها كانت متوفرة على وجوب ذكر هذا الكتاب، فكيف تفوتنا دلالة سكوت الجميع عن هذا الذكر؟ لقد أشار الجاحظ مثلا إلى أن ابن المقفع كان يُتَّهم بالزندقة، ومع هذا لم يتطرق قلمه إلى الإشارة إلى

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير