تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الكتاب. بل إنه قد نص فى إحدى رسائله على أنه، فى صدر حياته الإبداعية، كان ينحل بعض ما يضعه من كتب لابن المقفع ضمانا لترويجها. أفلو كان لابن المقفع كتاب يهاجم فيه القرآن بهذه الشراسة أكان الجاحظ يذكر هذا عن نفسه؟ بل أكان الجاحظ، وهو الموسوعى الذى لا تفوته فائتة، يهمل الرد على ابن المقفع فى كتاباته التى يدافع فيها عن إعجاز القرآن ويفنِّد من سولت لهم نفوسهم محاولة تقليده؟

فإذا انتقلنا إلى الدكتور شوقى ضيف وجدناه يعزو قتل ابن المقفع إلى الأمان الذى كتبه لعم الخليفة واعتمد فيه تلك الصيغة العنيفة المسيئة للمنصور. بيد أنه يمضى قائلا إنه لا ينفى عنه مع ذلك تهمة الزندقة. والسبب؟ السبب هو أن هذه التهمة قد شهد بها كثيرون من معاصريه ومن جاؤوا بعده. ولكنى أرى أنه لو اجتمعت البشر كلها على مثل تلك التهمة ولم يقدموا لنا دليلا على ما يقولون فاجتماعهم هذا غير مقبول عندى. ولقد فتشت مع القارئ الكريم تصرفات ابن المقفع وما خلَّفه من تراث فكرى فلم نجد شيئا يغمز فى دينه ونيته، بل كل ما صدر عن الرجل ووصل إلينا من سلوكه أو فكره يدل على عكس ما يرمونه به على طول الخط، اللهم إن قيل إنهم قد استطاعوا التدسس إلى ما وراء الحجب حيث تستكنّ الضمائر ورَأَوْا ما تُجِنّه نفسُه هناك من كفر وزندقة. وأَنَّى لهم أو لسواهم ذلك؟ هذا ما لا يمكن أن يكون!

إن بعضهم يؤكد أن ابن المقفع كان ينتهج أسلوب التقية. إلا أنهم للأسف لا يقدمون دليلا على ما يزعمون. كما أنه ليس من المعقول أن يكون متمتعا بحريته كاملة فى التمسك بدين آبائه وأجداده فيأبى إلا أن يتحول ظاهريا إلى الإسلام مع استمراره فيما بينه وبين نفسه على دينه القديم لا لشىء إلا لكى يضيّق على نفسه ما كان واسعا ويوقعها فى الحرج ويُلْجِئها إلى اتباع سبيل التقية المرهق. يقينا إن هذا لا يكون إلا ممن فى عقولهم، والعياذ بالله، خلل. ولم يكن ابن المقفع ممن اختلت عقولهم. وفضلا عن ذلك فإن من يكتب "رسالة الصحابة"، التى وجهها أديبنا ومفكرنا إلى أبى جعفر المنصور، وهو من هو فى شدته وبطشه، فيذكر عيوب الإدارة العباسية ونظام جيشها وقضائها غير متلجلج ولا مجمجم، بل مستخدما فوق ذلك أحيانا ضمير جماعة المتكلمين فى حديثه عن نفسه، لا يمكن أن يكون من أهل التقية!

ومع هذا فمن الدارسين المحدثين من اكتفى بالإشارة إلى ما قيل قديما عن زندقة ابن المقفع دون أن يتخذ موقفا من الموضوع فيؤكد أو ينفى تلك الزندقة. فمثلا نرى الدكتور عمر فروخ، عند ترجمته للرجل فى الجزء الثانى من كتابه: "تاريخ الأدب العربى"، يقول إنه لم يعمَّر طويلا فى الإسلام لأن المنصور قد أمر بقتله بعد ذلك بأعوام قليلة. وهنا يقدّم الأستاذ الدكتور الاحتمالات التالية: أنه قُتِل جَرَّاءَ الزندقة، أو بسبب صيغة الأمان التى كتبها ابن المقفع لعم الخليفة الذى كان قد خرج عليه وانهزم، ولم يشأ أن يسلم نفسه إليه إلا بعد أخذ ضمانٍ مؤكَّدٍ منه بألا يقتله، وهو الضمان الذى صاغه ابن المقفع صياغة رآها المنصورة مسيئة أشد الإساءة، إذ تخرجه فى حالة نقضه للعهد من الملة وتخلعه من دست الحكم وتنفيه عن بنى العباس وتستتبع طلاق زوجاته وعتق عبيده (وغير ذلك مما ذكره الجهشيارى فى "الورزاء والكتاب"، وهو أشد إساءة للخليفة بما لا يقاس، وإن لم يتطرق الدكتور فروخ إليه)، أو أنه قد قصد انتقاد الخليفة والزراية على سياسته بكتابه: "كليلة ودمنة". وبهذا يكون د. فروخ قد خرج من العهدة فأدَّى الاحتمالات المختلفة دون أن يقطع بشىء منها.

أما خليل مردم بك فذكر أنه ما من مترجم تعرض لابن المقفع إلا وروى أنه كان يُرْمَى بالزندقة، وأن الناقلين قد زعموا أنه لم يُسْلِم إلا ابتغاء عَرَض الدنيا وأنه كان يضمر المجوسية، ومن ثم التمسوا للمنصور العذر فى أمره بقتله لأنه أفسد على الناس دينهم. وبعد أن تناول مردم بك كل ما أورده متهِمو ابن المقفع من حجج ونقضها واحدة واحدة مؤكدا أنها كلها أدلة لا يقام لها وزن فى تكفير المؤمن وإخراجه من رِبْقَة الإسلام عاد فقال إنه "ليس من المعقول أن يتفق المترجمون على زندقة ابن المقفع من غير سبب معقول. ولكن ذلك السبب خَفِىَ علىّ فلم أتبيَّنه". ومع ذلك فهو يؤكد أنك مهما تدبرت كلام ابن المقفع فى كتبه المختلفة وتفهمته وقرأت ما بين السطور فإنك

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير