تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لن تجد فيه جملة تنزّ إلى المجوسية بعِرْقٍ أو تضرب على الزندقة بوَتَرٍ، ومهما تأملت أفعاله فلن تلقى فيها ما يقنعك بتلك الزندقة. ومن ثم نراه يبدى حيرته إزاء الكيفية التى استدل بها الناس على زندقته وكيده للإسلام، وإن لم يستبعد أن يكون الرجل زنديقا إن أرادوا أنه كان متهاونا بالفرائض وصحبة المتهمين فى دينهم وأنه كان صاحب تفكير حر.

وقد كنت أُحِبّ لو أن مردم قد مضى فى ذات الطريق التى أداه إليها عقله ومنطقه، وهى حسم تبرئة ابن المقفع ما دام لم يستطع أن يُلْفِىَ شيئا يمكن اتخاذه مُتَّكَأً لاتهامه بالزندقة. لكنه للأسف لم يفعل، وذلك لأنه استبعد أن يُجْمِع القدماء على اتهامه بالزندقة خطأً. أما أنا فلا أتردد لحظة فى تبرئته ما دمت لم أستطع أن أرى فى أعماله أو فى كتاباته أى شىء يسىء إلى إيمانه، بل ما دمت قد وجدت فى هذه وتلك ما يجعلنى أطمئن له، وإلا فيا ضيعة العلم والعقل والمنطق والمنهج إذا كنا بعد هذا كله نصر على اتهام الرجل لا لشىء إلا لأن القدماء قد اتهموه رغم فشلهم فى تقديم دليل واحد على ما اتهموه به. ومع هذا فلا شك أن مردم أفضل من غيره ممن راحوا يرددون كلام القدماء دون أن يقعوا له على شىء يشكّك فى دينه ونيته.

وفى ترجمة ابن المقفع الموجودة فى الجزء الأول من "ضحى الإسلام" يستعرض د. أحمد أمين قضية الزندقة التى رُمِىَ بها الأديب العباسى، فنراه يميل إلى عدم تصديقها لأن الدليل على تلك التهمة غير متوفر كما يؤكد. بل إنه ليرفض أيضا أن يكون الرجل قد عارض القرآن أصلا، مبديا شكه فى صحة الكتاب الذى نُسِب إليه فى هذا السبيل، وكذلك فيما نُسِب إلى أبى القاسم بن إبراهيم (الملقب بابن طباطبا) من الرد على تلك المعارضة. وحجته فى ذلك أن القدماء لم يذكروا لابن المقفع كتابا يعارض فيه القرآن، مثلما لم يذكروا لابن طباطبا شيئا فى الرد على المعارضة المدَّعاة. علاوة على أن السجع الذى صيغت فيه المعارضة المنسوبة للأول والرد المنسوب للأخير لم يكن من سمات أسلوب العصرين اللذين عاش فيهما ابن المقفع وابن طباطبا. فأما بالنسبة إلى الأسلوب الذى صيغت به المعارضة المزعومة فقد لاحظت أنه لا يتسق مع الأسلوب الذى نعرفه لابن المقفع على ما سوف يتضح للقارئ خلال هذه الدراسة التى بين يديه. وأما الشك فى نسبة الرد إلى القاسم بن إبراهيم فقد أكد إمام حنفى عبد الله، محقق الطبعة الجديدة من ذلك الرد، أنه للقاسم حقا دون أدنى ريب، وإن لم يحفل فى ذات الوقت بصحة نسبة المعارضة لابن المقفع أو بعدم صحتها رغم نصه على تأكيد صحتها من قِبَل المستشرق الإيطالى مايكل أنجلو جويدى صاحب النشرة الأولى لها عام 1927م فى روما (انظر تحقيقه لكتاب القاسم بعنوان "نقد المسلمين للثنوية والمجوس مع الرد على ابن المقفع"/ دار الآفاق العربية/ 1420هـ- 2000م/ 67 - 68). وفى كل الأحوال فالدكتور أحمد أمين يَكِلُ الأمر فى صدق إسلام ابن المقفع أو كذبه إلى علام الغيوب، وبخاصة أنه قد صار يفصل بيننا وبينه القرون المتطاولة.

والرأى الذى يطمئن إليه القلب هو أن ابن المقفع ليس صاحب المعارضة المذكورة، بل واضعها شخص آخر أراد أن يتخفى وراء اسم الرجل بعد أن مات وشبع موتا، إذ لم نسمع بها إلا من قلم القاسم بن إبراهيم بعد أكثر من قرن، وقد يكون اسم ذلك الرجل أيضا هو "ابن المقفع" على ما سوف أوضح بعد قليل. وليس شىء من هذا بمستغرب، فنَحْل الكتب لغير أصحابها أمر شائع فى جميع الأمم، وبخاصة إذا تشابهت الأسماء. وإذا كان الجاحظ بجلالة قدره قد ذكر أنه هو نفسه فى صدر حياته الإبداعية كان يكتب الكتاب ثم يَنْحَله أحد المشاهير السابقين كابن المقفع كى تشيع ويتقبلها الناس قبولا حسنا، فها هى ذى الأقدار تضع ابن المقفع مرة أخرى فى ذات الموقف، فينسب إليه أحدهم كتابا فى الهجوم على القرآن خوفا على نفسه من الأذى، أو حرصا على إحداث أكبر دوى لترويج الكتاب.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير