تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال الجاحظ: "إني ربما ألَّفْتُ الكتاب المحكم المتقن في الدِّين والفقه والرسائل والسيرة والخطب والخراج والأحكام وسائر فنون الحكمة وأنسبه إلى نفسي، فيتواطأ على الطعن فيه جماعةٌ من أهل العلم بالحسد المركَّب فيهم، وهم يعرفون براعته ونصاعته. وأكثر ما يكون هذا منهم إذا كان الكتاب مؤلفا لملكٍ معه المقدرة على التقديم والتأخير، والحطِّ والرَّفع، والترغيب والترهيب، فإنهم يهتاجون عند ذلك اهتياج الإبل المغتلِمة. فإن أمكنتْهم حيلةٌ في إسقاط ذلك الكتاب عند السيّد الذي أُلِّف له فهو الذي قصدوه وأرادوه، وإنْ كان السيد المؤلَّف فيه الكتاب نحريرا نقابا، ونقريسا بليغا، وحاذقا فطنا، وأعجزتْهم الحيلة، سرقوا معاني ذلك الكتاب وألّفوا من أعراضه وحواشيه كتابا وأَهْدَوْه إلى ملك آخر ومَتُّوا إليه به، وهم قد ذمّوه وثلبوه لمّا رَأَوْه منسوبا إليّ، وموسوما بي. وربما ألّفتُ الكتاب الذي هو دونه في معانيه وألفاظه فأترجمه باسم غيري وأحيله على من تقدمني عصره مثل ابن المقفع والخليل وسَلْمٍ صاحب بيت الحكمة ويحيى بن خالد والعتّابيّ ومن أشبه هؤلاء من مؤلِّفي الكتب، فيأتيني أولئك القوم بأعيانهم الطاعنون على الكتاب الذي كان أحكم من هذا الكتاب لاستنساخ هذا الكتاب وقراءته عليّ، ويكتبونه بخطوطهم، ويصيِّرونه إماما يقتدون به، ويتدارسونه بينهم، ويتأدّبون به، ويستعملون ألفاظه ومعانيه في كتبهم وخطاباتهم، ويروونه عنيِّ لغيرهم من طلاب ذلك الجنس فتثبت لهم به رياسة، ويأتمُّ بهم قومٌ فيه لأنه لم يترجم باسمي، ولم يُنْسَب إلى تأليفي. ولربما خرج الكتاب من تحت يدي مُحْصَفًا كأنه متن حجرٍ أملس، بمعانٍ لطيفةٍ محكمةٍ، وألفاظ شريفة فصيحة، فأخاف عليه طعن الحاسدين إنْ أنا نسبته إلى نفسي، وأحسد عليه من أهمُّ بنسبته إليه لجودة نظامه وحسن كلامه، فأُظْهِره مُبْهَمًا غُفْلاً في أعراض أصول الكتب التي لا يُعرف وُضّاعها، فينهالون عليه انهيال الرَّمْل، ويستبقون إلى قراءته سباق الخيل يوم الحلْبة إلى غايتها".

ثم إن لدينا سؤالا منطقيا يننظر الجواب ويلح فى طلبه إلحاحا عنيفا صارخا: ترى أين كان ذلك الكتاب طوال مدة قرن؟ هل نزل من السماء بغتة فى عصر القاسم بن إبراهيم بعدما كان قد رفعه الله إثر فراغ ابن المقفع من وضعه فلم يطّلع عليه قبل ذلك أحد، إلى أن جاء القاسم فكانت مشيئة الله أن يفرج عنه وينزله عليه كى يختصه بشرف الانفراد بتخطئته قبل أن تزدحم على مورده الأقلام ولا يكون هناك فرصة له للتميز فى هذا الميدان؟ لقد كان أحرى بمن ترجموا لابن المقفع وذكروا قتله بأمر المنصور وخاضوا فى الحديث عن تهمة الزندقة التى وُجِّهَتْ إليه أن يتناولوا هذه المعارضة بالذكر أول شىء، إذ كانت كفيلة بتسويغ قتله بدلا من الكلام عن العهد الذى يُحْكَى أنه صاغه لتكتيف المنصور فلا يستطيع أن يجد حجة يقتل بها عمه، ذلك العهد الذى لا يسوِّغ اتخاذَه ذريعةً لقتل ابن المقفع مسوِّغ، وبدلا من الإحالة أيضا على ما كان يوجهه إلى والى البصرة الذى نفَّذ فيه أمر المنصور من شتائم تتناول عِرْض أمه.

فإذا نظرنا فى أسلوب المعارضة المزعومة ومحتواها فإننا نلاحظ، أول شىء، تلك التسمية التى افتتحها بها صاحبها، وهى قوله: "باسم النور الرحمن الرحيم"، إذ قد قلّبْتُ "الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" و"كليلة ودمنة" و"رسالة الصحابة" فلم أجد ابن المقفع استخدم كلمة "النور" قَطُّ ولا حتى فى معناها اللغوى العادى. أفلو كان ممتلئا بعقيدة النور والظلام الوثنية ويؤمن بأن الله هو النور كما توضح لنا تلك المعارضة التى تمتلئ بهذا اللفظ امتلاءً، أفكان من الممكن أن تخلو مؤلفاته تماما من هذه اللفظة؟

وفوق هذا ألم يكن بمستطاعه أن ينفّس عن عقيدته فى النور والظلام، لو كان حقا يؤمن بمثل تلك العقيدة، من خلال استشهاده بالآيات التى تثنى على النور وتذم الظلام، كقوله تعالى مثلا: "اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير