تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وشىء آخر اتخذه د. عبد اللطيف حمزة دليلا على أن المعارضة من إنشاء ابن المقفع، هو ما يبرز فيها من تهكم يراه الأستاذ الدكتور من خلائق الرجل، وأراه أنا دليلا على أنها ليست لابن المقفع، إذ لم يكن الرجل من الكتاب المتهكمين، وإلا فليرنا أحد أين مثل ذلك التهكم فى كتاباته. والطريف أن الدكتور حمزة، بعد كل ما قاله من أن الرجل إنما وضع تلك المعارضة كى ينصر دين مانى على دين محمد، يعود فيقول، تفسيرا لما يراه فيها من الطعن فى جميع الأديان بما فيها المانوية، إن ابن المقفع كان فى حالة اضطراب عقلى أنكر معه كل شىء وأراد ألا يؤمن معه بشىء. فالرجل لم يكن يهاجم الإسلام بعينه إذن لصالح دين آخر. فما معنى كل هذه الضجة حول بغضه للدين الجديد الذى هزم دين آبائه وأجداده؟

كذلك جاء فى تلك الرسالة قول واضعها: "فلا نعلم دينا منذ كانت الدنيا إلى هذا الزمان الذى حان فيه انقضاؤها أخبث زبدةً كلما مُخِّض، وأَسْفَهَ فى هذا التمخيض أهلا، وأبتر أصلا، وأَمَرَّ ثمرا، وأسوأ أثرا على أمته والأمم التى ظهر فيها، وأوحش سيرة، وأغفل عقلا، وأَعْبَد للدنيا وأَتْبَع للشهوات من دينكم". فهل كان ابن المقفع يؤمن بأن الدنيا فى ذلك الوقت موشكة على الانقضاء كما يقول النص؟ ليس فيما كتب الرجل ما يوحى على أى وضع من الأوضاع بشىء من هذا. ولقد كان الرجل مفكرا حكيما، ومثله لا يردد هذه الترهات. وأهم من هذا كله أن ابن المقفع كان مؤمنا بالله إيمانا وثيقا وبالدين الذى جاء به النبى العربى الكريم. يتضح ذلك مما خلفه وراءه من رسائل، ويتضح قبل ذلك من إقدامه بحريته الكاملة على اعتناق الإسلام. فكيف يطوف بعقل عاقل بعد ذلك كله أنه هو محبّر هذا الكلام الممرور السفيه؟ أويمكن أن يكون قائل هذا الغثيان هو نفسه كاتب النصين التاليين من "الأدب الصغير" مثلا بما يعكسانه من الشعور بالله فى كل شىء واليقين بأنه سبحانه مصدر كل شىء فى الوجود، وأن هناك آخرة سوف نُبْعَث فيها ونحاسَب على ما قدمت أيدينا فى هذه الدنيا؟

وهذا هو النص الأول: "أما بعد، فإن لكل مخلوقٍ حاجةً، ولكل حاجةٍ غايةً، ولكل غاية سبيلا. والله وَقَّتَ للأمُور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سُبُلها، وسبَّبَ الحاجات ببلاغها. فغايةُ الناسِ وحاجاتهم صلاحُ المعاشِ والمعاد، والسبيل إلى دَرْكها العقل الصحيح. وأمارةُ صحةِ العقلِ اختيارُ الأمورِ بالبصرِ، وتنفيذُ البصرِ بالعزمِ. وللعقولِ سجيّاتٌ وغرائزُ بها تقبل الأدب، وبالأدبِ تنمي العقولُ وتزكو. فكما أن الحبة المدفونة في الأرضِ لا تقدر أن تخلعَ يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرضِ بزهرتها وريعها ونضرتها ونمائها إلا بمعونةِ الماء الذي يَغُورُ إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقةُ العقلِ مكنونةٌ في مغرزها من القلبِ، لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدبُ الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها. وجل الأدب بالمنطق، وجل المنطقِ بالتعلمِ. ليس منه حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه إلا وهو مروي متعلمٌ مأخوذٌ عن إمام سابقٍ من كلامٍ أو كتابٍ. وذلك دليلٌ على أنّ الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قِبَلِ العليمِ الحكيمِ".

ثم هذا هو النص الثانى: "مما يدل على معرفةِ الله وسبب الإيمان أن يوكّل بالغيبِ لكل ظاهرٍ من الدنيا، صغيرٍ أو كبيرٍ، عينا، فهو يُصرفهُ ويحركهُ. فمن كان معتبرا بالجليل من ذلك فلينظر إلى السماء فسيعلمُ أن لها ربا يُجْرِي فَلَكها، ويُدبّرُ أمرها، ومن اعتبر بالصغير فلينظر إلى حبةِ الخردلِ فسيعرفُ أن لها مدبرا ينبتها ويزكيها ويُقَدِّرُ لها أقواتها من الأرض والماء، ويُوَقِّتُ لها زمانَ نباتها وزمانَ تهشمها، وأمر النبوةِ والأحلامِ وما يحدثُ في أنفسِ الناسٍ من حيثُ لا يعلمونَ، ثم يظهرُ منهم بالقولِ والفعلِ، ثم اجتماعِ العلماء والجهالِ والمهتدين والضلال على ذكر الله وتعظيمه، واجتماعِ من شك في اللهِ وكذَّب بهِ على الإقرارِ بأنهم أُنْشِئوا حديثا، ومعرفتهم أنهم لم يُحْدِثوا أنفسهم. فكل ذلك يهدي إلى الله ويدُلّ على الذي كانت منهُ هذه الأمورُ، مع ما يزيدُ ذلك يقينا عند المؤمنين بأنّ الله حقٌ كبيرٌ، ولا يقدرُ أحدٌ على أن يوقن أنه الباطلِ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير