تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كذلك نظرت مليًّا فى نصوص المعارضة التى رد عليها القاسم بن إبراهيم فلم أجد ما فى أسلوب ابن المقفع من إحكام عجيب وسلاسة وفحولة واتساع معجم، إذ الرجل قد امتلك العربية امتلاكا وراضها على أن تؤدى كل ما يدور فى ذهنه أو فى قلبه ببراعة بارعة قلما تتاح لكاتب إلا أن يكون من طرازه هو نفسه. إن أسلوب الرجل ليشبه سلاسل الذهب نفاسة وترفا، وكؤوس البلور صفاء ونقاء.

والغريب أن يعيب د. طه حسين أسلوب ابن المقفع رغم هذا كله، إذ قال مخاطبا الجمهور فى محاضرة ألقاها فى الجمعية الجغرافية المصرية فى العشرين من ديسمبر عام 1930م: "عندما تقرأون كتابة ابن المقفع تجدون فيها شيئا من الالتواء والدوران، ونحس ونحن نقرأ أن الكاتب يجد مشقة فى التعبير عن المعانى التى يحسها، ونحس هذا الضعف الذى يكلِّفه الكاتب للعربية: نحسه لا بعقولنا فحسب، بل بآذاننا، فنجد ابن المقفع يكلِّف النحو العربى تكاليف ربما لم يكن النحو العربى مستعدا لأن يحتملها. وابن المقفع، مع أنه زعيم الكتاب وصاحب الآيات وواضع المثل الأعلى للكتابة، لم يكن عظيم الحظ من الفصاحة والنحو العربى. والمقارنة بينه وبين ما كتب أصحاب النحو وغيرهم تُظْهِركم على أنه لم يكن أكثر من مستشرق يحسن اللغة العربية والفارسية، ويبذل جهدا عظيما فيوفَّق كثيرا ويخطئ أحيانا" (من حديث الشعر والنثر/ ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات الدكتور طه حسين/ 5/ 584 - 585).

وفى محاضرة مماثلة فى ذات الجمعية بعد ذلك بأسبوع يكرر الدكتور طه ذات الرأى فيقول إن ترجمة الفلسفة والعلوم الدقيقة قد جشّمت اللغة العربية كثيرا من المشقة، "فاضْطُرَّ المترجمون أن يتكلفوا ضروبا من التكلف والاعوجاج، وإلى أن يُفْسِدوا تركيب الجمل بإفساد الضمائر، وإلى أن يُكْثِروا من التقديم والتأخير والإيجاز والحذف، وإلى أن يُطْنِبوا فيكون إطنابهم مملا ثقيلا. كل هذا تجدونه فى أدب ابن المقفع" (المرجع السابق/ 591). وبعد قليل يضيف قائلا: "وأبقى أثر حُفِظ منه هو كتاب "كليلة ودمنة"، الذى لا أحدثكم عنه، فكلكم يعرفه. وإذا قرأتموه متفكرين متدبرين فقد تَرَوْن أن لغته العربية تحتاج إلى شىء من العناية أكثر مما فيه الآن". ثم يأخذ فى الحديث عن أدب عبد الحميد الكاتب ليعود إلى ابن المقفع فيقول: "أما ابن المقفع فأمره مختلف، وله عبارات من أجود ما تقرأ فى العربية، وبنوع خاص فى "الأدب الكبير" وفى "كليلة ودمنة"، ولكنه عندما يتناول المعانى الضيقة التى تحتاج إلى الدقة فى التعبير يضعف فيكلف نفسه مشقة ويكلف اللغة مشقة، فلاحظ الأصمعى أنه كان يلحن فيضيف "أل" إلى "كل" و"بعض". وأخذ عليه الجاحظ أنه لم يكن يحسن كل ما يحاوله من الفنون. وأنا أستأذنكم لحظات أعرض عليكم فيها أمثلة من لغة ابن المقفع المضطربة لا الجيدة. وإنما كان ابن المقفع مستشرقا كغيره من المستشرقين، يحسن اللغة العربية فهما، وربما أعياه الأداء فيها" (المرجع السابق/ 600 - 601).

وبعد استعراض الدكتور طه بعض نصوص ابن المقفع من الكتابين المذكورين يعقب قائلا: "مثل هذه الجمل فى كلام ابن المقفع كثير جدا تجدونه فى"الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" و"كليلة ودمنة" ورسائله الخاصة التى كان يرسلها إلى إخوانه. وليس هذا يطعن فى كفاية ابن المقفع ولا مقدرته الخاصة، فقد كان يكتب فى أول عهد النثر الفنى بالوجود، فليس غريبا ألا يستقيم له النثر كما كان يستقيم لرجل كعبد الحميد. وليس ابن المقفع بدعا فى هذا، فكتّاب اليونان كانوا على مثل ما كان عليه ابن المقفع من ضعف فى التعبير لأنهم لم يتعودوا أداء هذه المعانى من قبل. فليس على ابن المقفع حرج فى أن تضطرب لغته وتستعصى عليه، وإنما الحرج على الذين يريدون أن يتخذوا من ابن المقفع مثلا وآية فى البلاغة دون إمعان أو رَوِيَّة. وأنا أنصح لطلاب الأدب أن يحتاطوا عندما يريدون أن يتخذوا ابن المقفع نموذجا للتعبير والبلاغة" (المرجع السابق/ 5/ 602 - 603).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير