تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذه الكلمات للأسف قد خرجت، كما هو واضح، من فم الدكتور طه دون أن تمر بعقله الممحّص، وإلا فإذا كان ابن المقفع مستشرقا أو يشبه المستشرقين فليس ثم من يستطيع القبض على زمام لغة القرآن إذن. ثم كيف يكون ابن المقفع كالمستشرقين، وهو العربى لغة وأدبا وثقافة أولا، ثم دينا أيضا بعد ذلك؟ لقد نشأ ابن المقفع فى محيط عربى وتعلم فى ذلك المحيط وتشرب ثقافة ذلك المحيط، أما المستشرقون فهم ناس أجانب لغة وأدبا وثقافة، ودينا كذلك، فوق أنهم يعيشون فى بلادهم بعيدا عن العرب على عكس ابن المقفع، الذى كان يعايش العرب فى كل مكان. أما اتصال المستشرقين بلغة العرب وأدب العرب وثقافة العرب فهو اتصال دراسة لا اتصال تشرب لتلك الثقافة، بل إن البغض والعداء والتشويه هو سيد الموقف عندهم إلا فى النادر الذى لا يقاس عليه. إن الاستشراق هو محض تخصص لا أكثر، أما ابن المقفع فقد كانت اللغة لغته، والثقافة ثقافته، لا يعرف شيئا غيرهما، كما كان يعيش بين ظَهْرَانَىِ العرب ويعمل كاتبا عند بعض رؤساء العرب. كذلك لا أدرى لم ميز طه حسين بينه وبين عبد الحميد فى تلك النقطة، وكلاهما غير عربى الأصل؟ فلماذا كان ابن المقفع مستشرقا، ولم يكن عبد الحميد بالمستشرق لا هو ولا سهل بن هارون ولا عبد القاهر ولا الزمخشرى ولا الآلاف غيرهم ممن لا ينتمون إلى العروبة دما وجنسا؟ وكيف لم يستقم التعبير لابن المقفع جَرّاء مجيئه فى أول عهد النثر الفنى بالوجود، واستقام لعبد الحميد رغم أنه أتى فى نفس الفترة التى كان فيها النثر الفنى فى أول عهده بالوجود أيضا، وكان صديقا لابن المقفع وعملا معا فى الدواوين الحكومية؟ ألا إن هذا لغريب!

أما التعقيد المدَّعَى فى كتابات أديبنا الكبير فلم يحاول الدكتور طه أن يضع أيدينا على شىء منه، بل كل ما صنعه هو أنه أورد بعض النصوص مما كتب الرجل وزعم أن فيها تعقيدا والتواء. وقد نظرت فيها فلم ألحظ شيئا من هذا الذى زعم. وهذا أحد تلك النصوص التى أوردها فى محاضرته. وهو، على العكس مما ذهب إليه الدكتور طه، ينساب فى سلاسة وفحولة وثقة وإحكام تركيب لا يتحقق إلا على يد فطاحل الكتاب. بل أكاد أقول إن طه حسين نفسه، على حلاوة أسلوبه المعروفة، لا يرقى أحيانا فى إحكام الجملة إلى هذا المستوى. يقول ابن المقفع المظلوم: "إذا تراكمت عليكَ الأعمالُ فلا تلتمسِ الرَّوْح في مدافعتها بالروغان منها، فإنه لا راحة لكَ إلا في إصدارها، وإن الصبر عليها هو الذي يخففها عنك، والضجر هو الذي يُراكمُها عليك. فتعهد من ذلك في نفسكَ خصلةً قد رأيتُها تعتري بعضَ أصحابِ الأعمال. وذلك أن الرجلَ يكونُ في أمرٍ من أمرهِ فيَرِدُ عليهِ شغلٌ آخرُ أو يأتيهِ شاغلٌ من الناسِ يكدّرهُ إتيانهُ فيكدّرُ ذلكَ نفسه تكديرا يفسدُ ما كان فيه وما وردَ عليهِ حتى لا يُحْكِمَ واحدا منهُما. فإذا وردَ عليكَ مثلُ ذلكَ فليكن معك رأيك وعقلك اللذان بهما تختارُ الأمور، ثم اختر أَوْلَى الأمرين بشغلك فاشتغل به حتى تفرغ منه. ولا يَعْظُمَنَّ عليك َفْوتُ ما فاتَ وتأخيرُ ما تأخر إذا أعملتَ الرأي مَعْمَلَهُ وجعلتَ شغلك في حقه. واجعل لنفسكَ في كل شغلٍ غايةً ترجو القوةَ والتمامَ عليها".

فأى قدرة هذه على بناء الكلام السلس المتين حتى إن الكلام ليأخذ الطريق يمينا مرة ويسارا مرة، أو يعترضه معترض من القول، أو يتقدم بعض عناصر الجملة ويتأخر بعضها الآخر، وابن المقفع رغم ذلك كله قابض على زمام الحديث قبضا لا تهتز يده أو يفلت منه شىء. وانظر الجمال كله فى قوله: "مَعْمَلَه" (بصيغة المصدر الميمى) بدلا من "عَمَلَه" (بصيغة المصدر العادى) بما فى ذلك من طرافة وجرأة ورغبة فى الإدهاش وإدلال بامتلاك اللغة والإحاطة بها من أقطارها. ترى أى شيطان عبقرى من شياطين الإبداع أوحى لابن المقفع بهذه الصيغة؟ ودونك روابط الجمل والعبارات من مثل "وذلك أن"، "فإن" و"الفاء ولكنّ وثُمَّ" وما أشبه، فافحصها على أقل من مهلك فلن تجد فيها شبهة من رائحة وهن. إنك هنا بإزاء جواهرى أريب يعرف أسرار جمال المعادن والأحجار الثمينة التى فى حوزته، ويعرف كيف يصوغ منها الحلىّ المترفة التى لا يقدّر قيمتها إلا الفاهمون. ولديك كذلك هندسة الجمل الأنيقة المنعشة، إذ هى هندسة مرنة مفعمة بالحيوية بعيدة عن الجمود والسير على منوال واحد. ولهذا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير