تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

تجده يعتمد حسن التقسيم أحيانا، ويتركه أحيانا أخرى، ويطوّل الجملة أحيانا، ويقصّرها أحيانا أخرى. كذلك نراه فى نصحه المخلص يراوح بين الأمر والنهى فلا يجرى هنا أيضا على وتيرة واحدة. ومن ثم كان هذا الإبداع الأسلوبى الشاهق بعكس ما زعم الدكتور طه على عادته فى حب مصادمة العقول بين الحين والآخر لوجه المصادمة.

ثم إن ابن المقفع لم يكن كاتبا مغمورا فيقال إن أسلوبه الذى لا يخلو من مشقة والتواء وعسر لم يكن يهتم به أحد، ومن ثم لم يُعَنِّ ناقدٌ نفسَه فى رصد تلك العيوب، بل كان كاتبا مشهورا له عدد من الرسائل التى تنهبها العيون نهبا وتأكلها أكلا، ولم يقل أحد من الأدباء والنقاد المعاصرين أو التالين له شيئا من هذا الذى يقوله طه حسين. أما ما ذكره من أن الأصمعى قد لاحظ أنه كان يلحن فيضيف "أل" إلى "كل" و"بعض"، وأن الجاحظ أخذ عليه أنه لم يكن يحسن كل ما يحاوله من الفنون فلا صلة بينه وبين الالتواء الأسلوبى، فضلا عن أن يذكِّرنا بالمستشرقين. وعلى كل حال فنحن الآن نُدْخِل "أل" على "بعض" و"كلّ" دون أن يرى أحد فيما نعمله التواء أو تعقيدا. وغاية ما يمكن أن يقوله المعترض هنا إن العرب القدامى لم تكن تصنع هذا. وذلك إن صح أنهم فعلا لم يستعملوه، فضلا عن أن عدم وجود هذا الاستعمال فى شعرهم ونثرهم لا يعنى بالضرورة أنه خطأ، فقد يكون مما سُكِت عنه، فهو عَفْوٌ بتعبير الرسول عليه السلام. بل إن مجمع اللغة العربية قد توصل إلى أن هذا استعمال صحيح لا غبار عليه.

وقد وجدت لفظة "الكل" فى قول ابن المقفع من كتاب "كليلة ودمنة": "ورأس الكلّ الحزم". كما أشار المعرى فى "عبث الوليد" إلى ما ذكره الأصمعى من أنه قرأ ابن المقفع فلم يجد لديه ما يمكن أن يؤخَذ عليه سوى إدخاله الألف واللام على "بعض" فى قوله: "العلم أكبر من أن يحاط بكُلّه، فخذوا البعض"، وهو ما يعنى أن الأصمعى على جلالة قدره لم يجد فى كتابات الرجل كلها إلا هذا "اللحن" كما سماه. أى أن كلام الأصمعى هو شهادة باقتدار الرجل لا انتقاص منه، إذ يكفى ذلك الأديب نبلا أن تنحصر معايبه فى"لحن" واحد، وهذا إن عُدّت كلمة "البعض" لحنا، وهى ليست لحنا بكل تأكيد كما سوف يرى القارئ حالا. فانظر كيف يَقْلِب طه حسين مرامى الكلام إلى عكس وجهتها!

ولقد بحثت فى التراث العربى القديم شعرا ونثرا عن كلمة "البعض" و"الكل"، فوجدت الجاحظ يستخدم هذه أو تلك أو كلتيهما معا فى أكثر من كتاب ورسالة له كـ"البرصان والعرجان" و"البيان والتبيين" و"الحيوان" و"البخلاء"، وكذلك وجدت الأمر ذاته لدى المبرّد فى "الكامل"، وابن عبد ربه فى"العقد الفريد"، وابن جنى فى "المبهج فى تفسير أسماء شعراء الحماسة"، والآمدى فى "الموازنة بين أبى تمام والبحترى"، والجرجانى فى "الوساطة"، وأبى هلال العسكرى فى"ديوان المعانى"، وقدامة فى "نقد الشعر"، والمرزوقى فى "الأزمنة والأمكنة" و"الأمالى"، وأبى حيان فى "الإمتاع والمؤانسة"، والخالديَّيْن فى "الأشباه والنواظر"، وأبى الفرج فى "الأغانى"، وياقوت الحموى فى "معجم الأدباء"، وابن رشيق فى"العمدة"، وبديع الزمان فى "المقامات"، وكذلك عشرات الشعراء من القدماء والمحدثين، وعلى رأسهم عبد الله بن الزبير وأبو الشِّيص والبحترى وابن الرومى وصالح بن عبد القدوس والخُرَيْمِىّ والمتنبى وأبو فراس والشريف الرضى.

أما أن الرجل لم يكن يحسن كل ما يتناوله من الفنون، فمن منا يا ترى يحسن كل ما يحاول من الآداب؟ إن لكل منا، مهما تكن عبقريته، مدًى ينتهى إليه: سواء فى عدد الفنون التى يتقنها أو فى المستوى الإبداعى الذى يبلغه، وهذا أمر لا يقبل المماراة. وعل كل حال فما منا أحد إلا وله مواضع يَتْعَب فيها ذهنه أو يصيبه السهو فيركّب الجمل حينذاك تركيبا لا يرضى هو أول واحد عنه فى حالة صحوه قبل أن ينتقده الآخرون. وليس طه حسين نفسه استثناءً فى هذا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير