تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولكى نعرف المكانة التى يحتلها ابن المقفع وأدبه فى نفوس القدماء علينا أن نراجع بعض ما قاله كبارهم: ففى"البيان والتبيين" للجاحظ سيد الكتاب والأدباء والمفكرين نقلا عن ابن قوهى: "قال إسحاق بن حسان بن قُوهيّ: لم يفسِّر البلاغَة تفسيرَ ابنِ المقفَّع أحدٌ قَطُّ. سُئِل: ما البلاغة؟ قال: البلاغة اسمٌ جامعٌ لمعانٍ تجري في وجوهٍ كثيرة: فمنها ما يكون في السُّكوت، ومنها ما يكون في الاستماع، ومنها ما يكون في الإشارة، ومنها ما يكون في الاحتجاج، ومنها ما يكون جوابا، ومنها ما يكون ابتداءً، ومنها ما يكون شعرا، ومنها ما يكون سَجعْا وخُطبا، ومنها ما يكون رسائل. فعامّةُ ما يكون من هذه الأبواب الوحيُ فيها والإشارةُ إلى المعنى والإيجازُ هو البلاغة. فأمّا الخُطَب بين السِّماطَين، وفي إصلاح ذاتِ البَين، فالإكثارُ في غير خَطَل، والإطالةُ في غير إملال. وليكن في صدر كلامك دليلٌ على حاجتك، كما أنَّ خيرَ أبياتِ الشعر البيتُ الذي إذا سمِعْتَ صدْرَه عرَفْتَ قافيتَه. كأنّه يقول: فَرِّقْ بينَ صدر خطبة النكاح وبين صَدْر خُطْبة العيد، وخُطبة الصُّلْح وخُطبة التّواهُب، حتَّى يكونَ لكّل فنٍّ من ذلك صدرٌ يدلُّ على عَجُزِه. فإنّه لا خيرَ في كلامٍ لا يدلُّ على معناك، ولا يشير إلى مَغْزَاك، وإلى العَمود الذي إليه قصدتَ، والغرضِ الذي إليه نزَعت. قال: فقيل له: فإنْ مَلَّ السامعُ الإطالةَ التي ذكَرْتَ أنّها حقُّ ذلك الموقِف؟ قال: إذا أعطَيْتَ كلَّ مَقامٍ حَقَّه، وقمتَ بالذي يجبُ من سياسة ذلك المقام، وأرضيْتَ من يعرف حقوقَ الكلام، فلا تهتمَّ لما فاتَكَ من رضا الحاسد والعدُوّ، فإنّه لا يرضيهما شيءٌ. وأمّا الجاهلُ فلستَ منه وليس منك. ورِضَا جميعِ النَّاس شيءٌ لا تنالُه ... قال: وسُئِل ابنُ المقفَّع عن قول عمر رحمه اللَّه: ما يتصَعَّدُني كلامٌ كما تتصعَّدَني خطبةُ النِّكاح. قال: ما أعرفه إلا أن يكون أراد قُربَ الوجوه من الوجوه، ونَظَر الحداق من قُربٍ في أجواف الحِداق. ولأنّه إذا كان جالسا معهم كانوا كأنَّهُم نُظَراءُ وأَكْفَاءٌ، فإذا عَلاَ المنبرَ صارُوا سُوقةً ورَعِيّةً".

وفى بعض رسائل الجاحظ الأخرى نقرأ ما يلى: "ومن المعلمين ثم من البلغاء المتأدبين عبد الله بن المقفع، ويكنى: أبا عمرو. وكان يتولى لآل الأهتم، وكان مقدَّما في بلاغة اللسان والقلم والترجمة واختراع المعاني وابتداع السير". ولعلنا لم ننس بَعْدُ إقرار الجاحظ بأنه كان فى صدر حياته الإبداعية إذا اراد أن يروّج شيئا كتبه وينفّقه بين القراء نَسَبَه إلى ابن المقفع أو من فى مكانته الأدبية! فهذا مؤشر على المكانة العظيمة التى كان يشغلها ابن المقفع من نفس ذلك الأديب والمفكر العظيم!

وفى"البصائر والذخائر" للتوحيدى، وهو من أئمة البيان الشاهقين، نقرأ: "قال أبو العيناء: كلام ابن المقفّع صريح، ولسانه فصيح، وطبعه صحيح. كأنّ كلامه لؤلؤٌ منثور، أو وشيٌ منشور، أو روضٌ ممطور". وفيها أيضا على لسان الأصمعى، الذى استشهد طه حسين به خطأً على أن فى أسلوب ابن المقفع التواء ومشقة: "قال ابن المقفّع لبعض الكتّاب: إيّاك والتّتبّع لوَحْشِيّ الكلام طمعا في نيل البلاغة، فإنّ ذلك العِيّ الأكبر". وفى "أمالى" المرتضَى: "وكان ابن المقفع، مع قلة دينه، جيد الكلام فصيح العبارة، له حكم وأمثال مستفادة". ويقول الزمخشرى فى "ربيع الأبرار" إن رسالة ابن المقفع المسماة بـ"اليتيمة" لهى مضرب المثل فى البلاغة. وشهد له الصغانى فى "العباب" بأنه كان فصيحا بليغا. وفى "خزانة الأدب ولُبّ لُبَاب لسان العرب" لعبد القادر البغدادى شهادة حاسمة بأن "ابن المقفع كاتب بليغ"، وإن شفع هذه الشهادة بأنه زنديق! سامحه الله!

ويشير بديع الزمان الهمدانى فى "المقامة الجاحظية" إلى أنه كان مثالا لبراعة الوصف وذرابة الكلام. كما وصفه ابن خلكان فى ترجمته له بـ"وَفَيات الأعيان" بأنه "الكاتب المشهور بالبلاغة، صاحب الرسائل البديعة". وفى "الفهرست" لابن النديم أن "بلغاء الناس عشرة: عبد الله بن المقفع، عمارة بن حمزة، حجر بن محمد ... "، وأن "الكتب المجمع على جودتها: عهد أردشير، كليلة ودمنة، رسالة عمارة بن حمزة الماهانية، اليتيمة لابن المقفع، رسالة الحسن لأحمد بن يوسف".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير