تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإن قَلَمًا يقع له ما كان يقع لقَلَم ابن المقفع فيتصرف رَبُّه كما كان يتصرف رَبُّ القلم المقفَّعِىّ لخليق ألا يقع فيما زعم طه حسين وقوع أديبنا الكبير فيه من التعقيد والالتواء والعجمة التى قال إنها تشبه عجمة المستشرقين. جاء مثلا فى كتاب "إعتاب الكتّاب" لابن الأبّار: "قال ابن عبد ربه: بلغني أن صديقا لكلثوم العتابي أتاه يوما فقال له: اصنع لي رسالة. فاستمد مدةً، ثم علق القلم، فقال له صاحبه: ما أرى بلاغتك إلا شاردةً عنك. فقال له العتابي: إني لما تناولت القلم تداعت عليَّ المعاني من كل جهة، فأحببت أن أترك كل معنى حتى يرجع إلى موضعه ثم أجتني لك أحسنها. وهذا كالذى رُوِيَ عن ابن المقفع من أنه كان كثيرا ما يقف قلمه، فقيل له في ذلك، فقال: إن الكلام يزدحم في صدري، فيقف قلمي لتخيُّره! ". الله! الله! ما هذه الصورة المونقة؟ إن رجلا كهذا لا يمكن أن يصدق عليه ما زعمه بحقه الدكتور طه، إذ مثله يعرف أن القلم قد يكون فى بعض الظروف مركبا صعبا يحتاج إلى رياضة وصبر وحكمة، ولا يؤخذ عنفا واعتسافا. وحرىٌّ بمثله ألا يقسر قلمه ساعتئذٍ على ما لا يطاوعه فيه، بل يأخذه بالحسنى حتى يلين له وينقاد ويعمل كل ما يريده منه عن طواعية ورضا.

ومن الطريف أن يعزف حنا الفاخورى ذات النغمة الطاهاحسينية فى تسرع يفتقر إلى المراجعة والتثبت، إذ أتى إلى جملة فى "كليلة ودمنة" فعلق عليها زاعما أن "توخى السهولة فى موضوعٍ بالغِ الصعوبة جعل ابن المقفع على شىء من العنت فى الترجمة وتأدية المعانى، فوقع فى بعض الغموض أحيانا، ووقع فى جمله بعضُ التداخل إلى حد يستحيل تقسيمها إلى عبارات، كما فى قوله: "وأما الوزتان اللتان رأيتَهما طارتا من وراء ظهرك فوقعتا بين يديك فإنه يأتيك من ملك بلخ فَرَسان ليس على الأرض مثلهما فيقومان بين يديك". والحق الذى لا مِرْيَة فيه أن الفاخورى لا يعرف عم يتحدث، وأغلب الظن أنه يردد ما قاله طه حسين دون تفكير. ذلك أن المعنى واضح مشرق ليس فيه أى تعقيد أو عنت، إذ المقصود هو تفسير الحلم الذى رآه الملك. فكأن الحكيم قد قال للملك: أما الحلم الفلانى فتفسيره كذا وكذا. وعلى هذا فإن الوزتين اللتين حلم بهما العاهل الهندى معناهما فَرَسان عديما الشبيه يرسلهما ملك بلخ فيقومان بين يَدَىِ الملك. وهذا حوار الملك والحكيم فى سياقه، أُورِده أمام القارئ كى يحكم بنفسه على ما يقول الفاخورى: "رأيت في المنام ثمانية أحلام فقصصتها على البراهمة، وأنا خائف أن يصيبني من ذلك عظيمُ أمرٍ مما سمعتُ من تعبيرهم لرؤياي. وأخشى أن يُغْصَب مني مُلْكي أو أن أُغْلَب عليه. فقال له الحكيم: إن شئت فاقصص رؤياك عليَّ. فلما قص عليه الملك رؤياه قال: لا يحزنْك أيها الملك هذا الأمر، ولا تخف منه: أما السمكتان الحمراوان اللتان رأيتَهما قائمتين على أذنابهما فإنه يأتيك رسول من ملك نهاوند بعلبة فيها عِقْدان من الدُّرّ والياقوت الأحمر قيمتُهما أربعة آلاف رطل من ذهبٍ فيقوم بين يديك. وأما الوزتان اللتان رأيتهما طارتا من وراء ظهرك فوقعتا بين يديك فإنه يأتيك من ملك بلخ فَرَسان ليس على الأرض مثلهما فيقومان بين يديك. وأما الحية التي رأيتها تدبّ على رجلك اليسرى فإنه يأتيك من ملك صنجين من يقوم بين يديك بسيف خالص الحديد لا يوجد مثله". أى أن كلمة "فإنه" تشير إلى أن هذا هو تفسير الحلم. ويمكننا أن نحذفها ونضع موضعها كلمة "فمعناهما". هكذا بكل بساطة ودون تطاول على ابن المقفع أو التحذلق بتخطئته على غير أساس. وأصحّ من كلام الفاخورى قول بطرس البستانى فى كتابه: "أدباء العرب فى الأعصر العباسية" عن "كليلة ودمنة": "فى هذا الكتاب يتجلى أسلوبه البديع الذى رفع به مستوى النثر العربى إلى أعلى درجات الفن وأشرفها".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير