تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما ما أثبته د. عبد الوهاب عزام فى المقدمة التى كتبها للطبعة الأولى من "كليلة ودمنة" من مآخذ على ترجمة ابن المقفع لذلك الكتاب من التزام بالحرفية أحيانا، فقد يكون له توجيه مقبول: فمن ذلك قوله: "غلب على صاحب البيت النعاسُ وحمله النوم"، الذى يعلّق الدكتور عزام على جملته الأخيرة بأنها ترجمة حرفية للأصل الفارسى: "خواب أورابرد"، وأرى أنا أنه لا بأس بهذا، إذ قد يكون فى نقل تلك العبارات والصور الأجنبية إغناء للعربية وإنعاش لها بدلا من أن نظل نردد ما شببنا وشبنا عليه من صور تقليدية. و"حَمَله النوم" صورة جميلة تعنى أن النوم قد نقل الشخص بعيدا عن عالم الحس واليقظة فلم يستطع المقاومة، أو أنه لم يتكلف النوم بل أتاه النوم وحمله حملا. وللدكتور طه حسين (زميل الدكتور عزام فى تحقيق ذلك الكتاب) أشياء من هذه فى كتاباته لا يفكر أحد فى أخذها عليه، كقوله عمن لا طال هذا ولا ذاك: "سقط بين كرسيين"، (& Ecirc;tre assis entre deux chaises, To fall between two stools ، مما يشبه إلى حد بعيد قولنا فى مصر: "رقص على السُّلَّم"، أو "لا طال بلح الشام ولا عنب اليمن")، وقوله، فيمن ضاعت عليه الفرصة فلم يستطع أن ينجز المطلوب إلا بعد فوات الأوان، إنه أقبل على عمله يؤديه فى الساعة الرابعة عشرة" (كما نقول الآن: "يلعب فى الوقت الضائع"، وهذا التعبير الأخير بدوره تعبير أجنبى مأخوذ من عالم الكرة). وهو أحيانا ما يردف مثل هذين التعبيرين بقوله: "كما يقول الفرنسيون". وقد يقول أحدنا عن المطر المنهمر كالسيول: "الدنيا تمطر قططا وكلابا"، مستعيرا هذا التعبير الظريف من الإنجليزية، أو يعلق على من يحكى شيئا يأبى أن يدخل العقل: "نعم، قد تطير الخنازير".

وأما قول ابن المقفع فى الكتاب ذاته: "وعرفت أنى إن أوافقْه أكن كالمصدِّق المخدوع، كالذى زعموا أن جماعة من اللصوص ذهبوا إلى بيت رجل من الأغنياء ... "، الذى انتقد د. عزام تركيب الجملة فيه لعدم وجود ضمير يعود على "الذى" وتفسيره إياه بأن ابن المقفع قد ترجم الاسم الموصول الفارسى: "كه" كما هو على أساس أن هذا الاسم لا يأخذ فى لغة الفرس أىّ ضمير، فقد وجدت أن الجملة قد وردت فى النسختين الضوئيتين اللتين أنزلتهما من المشباك على النحو الآتى: "وعرفت أنى إن أوافقْه أكن كالمصدِّق المخدوع كالذى زعموا فى شأنه أن جماعة من اللصوص ذهبوا إلى بيت رجل من الأغنياء ... " بما لا يتعلق عليه به متعلِّق. وحتى لو كانت ملاحظات الدكتور عزام صحيحة فهذا ينبغى أن يفسَّر بما نقع فيه كلنا من سهو حين نكتب، إذ العبرة لا بالوقوع فى مثل تلك الغلطات مرة، بل بتكرارها واطرادها، لأن هذا الاطراد هو المحك الحقيقى الذى على أساسه يصح اتهام الشخص بالخطإ.

ومن هنا فإنى أستغرب أشد الاستغراب قول القاسم بن إبراهيم عن أسلوب ابن المقفع الذى يردّ عليه فى رسالته التى بين أيدينا: "ثم خلف من بعد مانى إلى الحيرة والهلكات، خَلْفُ سوءٍ استخلفه إبليس على ما خلّف مانى من الضلالات، يسمَّى: ابن المقفع، عليه لعنة الله بكل مرأًى ومسمع ... فوضع كتابا أعجمى البيان، حكم فيه لنفسه بكل زورٍ وبهتان ... ". وسر استغرابى أمران: الأول أنه يشير إلى ابن المقفع بقوله إنه "يسمى: ابن المقفع"، وكأن ابن المقفع رجل نكرة مجهول وليس سيدا من سادات البيان والإبداع يعرفه القاصى والدانى ولا يسع أحدا من العرب والمسلمين، وبالذات فى ذلك الوقت، أن يجهله. وعلى هذا فإنى لا أستبعد أن يكون المقصود "ابنَ مقفعٍ" آخر، وبخاصة أنه لا يسميه بالاسم الذى نعرفه به، وهو "عبد الله بن المقفع" بل يكتفى بـ"ابن المقفع" ليس إلا. والأمر الثانى أنه يتحدث عما حبَّره ذلك الشخص فى معارضة القرآن بوصفه "كتابا أعجمى البيان"، وهو ما لا يخطر ببال أحد ممن يعرفون قيمة ما أبدع ابن المقفع أن يقوله، إذ رأيناهم جميعا يقرون له بالبراعة والإحسان رغم ذكر بعضهم أنه كان يُتَّهَم بالزندقة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير