تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فإذا رجعنا مرة أخرى إلى المعارضة المنسوبة لابن المقفع راعنا أن نصوصها تخلو من سمة بارزة فى كتاباته، ألا وهى ميله القوى إلى الإجمال الذى يتبعه بالتفصيل والتقسيم كما فى النص التالى، وهو من "الأدب الكبير": "اعلم أن الملك ثلاثةٌ: ملكُ دينٍ، وملكُ حزمٍ، وملكُ هوى. فأما ملكُ الدينِ فإنهُ إذا أقام للرعيةِ دينهم، وكان دينهم هو الذي يعطيهم الذي لهم ويلحقُ بهم الذي عليهم، أرضاهم ذلك، وأنزل الساخط منهم منزلة الراضي في الإقرار والتسليمِ. وأما ملكُ الحزمِ فإنهُ يقومُ به الأمرُ ولا يسلمُ من الطعنِ والتسخطِ. ولن يضر طعنُ الضعيفِ مع حزمِ القوي. وأما ملكُ الهوى فلعب ساعةٍ ودمار دهرٍ".

كما أن السجع فيها بارز بروزا قويا على حين لم يكن السجع من السمات الأسلوبية لدى ابن المقفع. وهذه بضع أمثلة على هذا الذى نقول: "فما باله إذا أراد إنزاله لم يطوه حتى لا يناله شيطان مريد، ولا مطيع رشيد، إلا رسوله من بين خلقه وحده، فيكون هو الذى ثبّت رشده؟ "، "ألا خلق الله الناس أبرارا، ومنعهم من أن يكونوا أشرارا؟ "، "إنه أَصَمَّ خَلْقَه أو أعماهم كما توهَّم، أو جبرهم على عصيانه، أو حال بين أحد وبين إيمانه، أو أنه أمرضهم، أو عذّب بغير ذنبٍ بَعْضَهم"، "ومن أين تدرى أن هذه نِعَمُه، وأن مُحْدِثَها إحسانُه وكرمُه". ولم يكن ابن المقفع هو الوحيد فى زمنه الذى لا يستعمل السجع، بل كان ذلك الامتناع ديدن تلك العصور المتقدمة، إذ "كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع ولا يقصدونه بَتَّةً إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق عن غير قصد ولا اكتساب. وإنما كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، ومعانيهم ناصعة، وعبارتهم رائقة، وفصولهم متقابلة، وجمل كلامهم متماثلة. وتلك طريقة الإمام علي عليه السلام ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع، وسهل بن هارون، وإبراهيم بن العباس، والحسن بن سهل، وعمرو بن مسعدة، وأبي عثمان الجاحظ، وغير هؤلاء من الفصحاء والبلغاء" كما لاحظ ابن أبى الإصبع عن حقٍّ فى كتابه: "تحرير التحبير فى صناعة الشعر والنثر".

ولكيلا ننخدع بحكاية معارضة ابن المقفع للقرآن هأنذا أسوق للمرة الثانية رواية أخرى مختلفة عما قاله ابن طباطبا، وهى الرواية التى سبق أن طالعناها للباقلانى. ومنها نرى أن الأمر لا يعدو أن يكون حكايات يراد منها الطعن فى دين الرجل دون أى دليل يمكن الاستناد إليه. جاء فى "إعجاز القرآن" للباقلانى: "وقد ادعى قوم أن ابن المقفع عارض القرآن. وإنما فزعوا إلى "الدرة اليتيمة وهما كتابان: أحدهما يتضمن حكما منقولة توجد عند حكماء كل أمة مذكورة بالفضل، فليس فيها شيء بديع من لفظ ولا معنى. والآخر في شيء من الديانات، وقد تَهَوَّسَ فيه بما لا يخفى على متأمل. وكتابه الذي بيناه في الحِكَم منسوخ من كتاب بزرجمهر في الحكمة. فأي صُنْعٍ له في ذلك؟ وأي فضيلة حازها فيما جاء به؟ وبعد، فليس يوجد له كتاب يدعى مُدَّعٍ أنه عارض فيه القرآن، بل يزعمون أنه اشتغل بذلك مدة ثم مزق ما جمع واستحيا لنفسه من إظهاره. فإن كان كذلك فقد أصاب وأبصر القصد. ولا يمتنع أن يشتبه عليه الحال في الابتداء، ثم يلوح له رشده، ويَبِين له أمله، ويتكشف له عجزه. ولو كان بقي على اشتباه الحال عليه لم يخف علينا موضع غفلته، ولم يشتبه لدينا وجه شبهته. ومتى أمكن أن تدعي الفرس في شيء من كتبهم أنه معجز في حسن تأليفه وعجيب نظمه؟ ". فها هو ذا عالم دينى متحمس للقرآن كالباقلانى صنف كتابا فى إعجاز القرآن هو أشهر الكتب فى بابه يصف ما قيل عن معارضة ابن المقفع للقرآن بأنه ادعاء لا يثبت على التمحيص لأنه لا يوجد كتاب له فى هذا الموضوع. ثم يضيف أن هناك رواية أخرى تقول إنه حاول معارضة القرآن فعلا، إلا أنه استبان له أن ذلك أمر فوق الطاقة فانصرف عنه وأقر بعجزه بعدما ثاب له رشده. وبالمثل نرى الباقلانى غير مطمئن إلى هذه الحكاية أيضا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير