تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

باطنا، فهو هذا. فقال له: وكيف ذاك؟ فقال: جلست إليه، فلما لم يبق عنده غيري ابتدأني فقال: إن يكن الأمر على ما يقول هؤلاء، وهو على ما يقولون (يعني أهل الطواف)، فقد سَلِموا وعطبتم. وإن يكن الأمر على ما تقولون، وليس كما تقولون، فقد استويتم أنتم وهم. فقلت له: يرحمك الله! وأي شيء نقول؟ وأي شيء يقولون؟ ما قولي وقولهم إلا واحد. قال: فكيف يكون قولك وقولهم واحدا وهم يقولون: إن لهم معادا وثوابا وعقابا ويدينون بأن للسماء إلها وأنها عُمْران، وأنتم تزعمون أن السماء خراب ليس فيها أحد. قال: فاغتنمتها منه فقلت له: ما منعه إن كان الأمر كما تقول أن يظهر لخلقه ويدعوهم إلى عبادته حتى لا يختلف منهم اثنان؟ ولم احتجب عنهم وأرسل إليهم الرسل، ولو باشرهم بنفسه كان أقرب إلى الإيمان به؟ فقال لي: ويلك! وكيف احتجب عنك من أراك قدرته في نفسك: نشوؤك ولم تكن، وكبرك بعد صغرك، وقوتك بعد ضغفك، وضعفك بعد قوتك، وسقمك بعد صحتك، وصحتك بعد سقمك، ورضاك بعد غضبك، وغضبك بعد رضاك، وحزنك بعد فرحك، وفرحك بعد حزنك، وحبك بعد بغضك، وبغضك بعد حبك، وعزمك بعد إبائك، وإباؤك بعد عزمك، وشهوتك بعد كراهتك، وكراهتك بعد شهوتك، ورغبتك بعد رهبتك، ورهبتك بعد رغبتك، ورجاؤك بعد يأسك، ويأسك بعد رجائك، وخاطرك بما لم يكن في وهمك، وعُزُوبُ ما أنت معتقده عن ذهنك؟ وما زال يعد عليّ قدرته التي هي في نفسي التي لا أدفعها حتى ظننت أنه سيظهر فيما بيني وبينه".

وواضح أن الحكاية إنما صنعت لتمجيد سعة علم جعفر بن محمد وقدرته على معرفة الغيب والإشادة بإنسانيته وتقواه. ثم كيف عرف ابن المقفع أن جعفر بن محمد يختلف عن سائر من كانوا فى المسجد الحرام أوانذاك؟ هل كان يشمّ على ظهر يده؟ وكيف عرف أنه سوف يهزم صديقه ابن أبى العوجاء فى حواره معه؟ وما دام هذا هو رأيه فى جعفر وفى علمه وعقيدته، فلماذا لم يهجر الزندقة ويدخل معه فيما هو فيه من تقوى وإنسانية عالية؟ ولو كان زنديقا كما تريد الحكاية أن تقول، فكيف أثنى على جعفر بن محمد رغم ما كان عليه جعفر هذا من تدين، والتدين ينافى الزندقة ويبغضها ويدينها ويدين صاحبها؟ أليس فى هذا التناقض وحده ما يدل على أن الحكاية مزيفة لا تثبت على التمحيص؟

ثم هذه رواية ثالثة عن ابن المقفع ومعارضته للقرآن، وهى منقولة عن كتاب: "الإسلام يتحدى" لوحيد الدين خان، الذى نقلها بدوره عن المستشرق ولاستن كما قال: "والحادث كما جاء عن لسان المستشرق هو أن جماعة من الملاحدة والزنادقة أزعجهم تأثير القرآن الكبير في عامة الناس فقرروا مواجهة تحدي القرآن، واتصلوا لإتمام خطتهم بعبد الله بن المقفع (727م)، وكان أديبا كبيرا وكاتبا ذكيا يُعْتَدّ بكفاءته، فقبل الدعوة للقيام بهذه المهمة، وأخبرهم أن هذا العمل سوف يستغرق سنة كاملة، واشترط عليهم أن يتكفلوا بكل ما يحتاج إليه خلال هذه المدة. ولما مضى على الاتفاق نصف عام عادوا إليه، وبهم تطلع إلى معرفة ما حققه أديبهم لمواجهة تحدي رسول الإسلام. وحين دخلوا غرفة الأديب الفارسي الأصل وجدوه جالسا والقلم في يده، وهو مستغرق في تفكير عميق، وأوراق الكتابة متناثرة أمامه على الأرض، بينما امتلأت غرفته بأوراق كثيرة كتبها ثم مزقها. لقد حاول هذا الكاتب العبقري أن يبذل كل مجهود عساه أن يبلغ هدفه، وهو الرد على تحدي القرآن المجيد، ولكنه أصيب بإخفاق شديد في محاولته هذه حتى اعترف أمام أصحابه، والخجل والضيق يملكان عليه نفسه، أنه على الرغم من مضي ستة أشهر حاول خلالها أن يجيب علي التحدي فإنه لم يفلح في أن يأتي بآية واحدة من طراز القرآن! وعندئذ تخلى ابن المقفع عن مهمته مغلوبا مستخذيا". وقد سبق أن أورد المستشرق المجرى إجناتس جولدتسيهر هذه الرواية فى كتابه المشهور: " Muhammedanische Studien " ( Halle, 1888, V. II, P. 401 ff ).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير