تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كذلك لا ينبغى أن يفوتنى التنبيه إلى أن ثمة رواية رابعة فى أمر ابن المقفع حكاها الإمام الجوينى فى كتابه: "الشامل فى الأصول"، وأوردها وعلق عليها كل من ابن الجوزى (فى "صيد الخاطر") وابن خلكان (فى "وَفَيَات الأعيان")، مع بعض الاختلاف بين ما كتبه هذا وما كتبه ذاك. وهذه الرواية ترينا كيف أن الأمر يحتاج إلى يقظة فى التعامل معها ومع أمثالها وإلى وجوب الاستعانة بالعقلية الناقدة عند التعرض لها، وإلا وجد الإنسان نفسه حائرا بائرا لا يستطيع أن يصل إلى شىء أو يروى الشىء ونقيضه أو يقول كلاما لا يقبله التاريخ ولا العقل: فأما ابن الجوزى فكتب فى باب "الفقه يحتاج إلى جميع العلوم" يُوجِب "على الفقيه أن يطالع من كل فنٍّ طرفا من تاريخ وحديث ولغة وغير ذلك، فإن الفقيه يحتاج إلى جميع العلوم، فليأخذ من كل شيء منها مهما ... وقد ذكر أبو المعالي الجويني في أواخر كتاب "الشامل في الأصول قال: "قد ذكرتْ طائفة من الثقات المعتنين بالبحث عن البواطن أن الحلاج والجبائي القرمطي وابن المقفع تواصَوْا على قلب الدول وإفساد المملكة واستعطاف القلوب، وارتاد كل منهم قطرا: فقطن الجبائي في الإحساء، وتوغل ابن المقفع في أطراف بلاد الترك، وقطن الحلاج ببغداد، فحكم عليه صاحباه بالهلكة والقصور عن بلوغ الأمنية لبعد أهل بغداد عن الانخداع وتوفُّر فطنتهم وصدق فراستهم". قلت: ولو أن هذا الرجل أو من حكى عنه عرف التاريخ لعلم أن الحلاج لم يدرك ابن المقفع، فإن ابن المقفع أمر بقتله المنصور فقُتِل في سنة أربع وأربعين ومائة، وأبو سعيد الجبائي القرمطي ظهر في سنة ست وثمانين ومائتين، والحلاج قُتِل سنة تسع وثلاثمائة. فزمان القرمطي والحلاج متقاربان، فأما ابن المقفع فكلا. فينبغي لكل ذي علم أن يلم بباقي العلوم، فيطالع منها طرفا، إذ لكل علم بعلم تعلق. وأَقْبِحْ بمحدِّثٍ يُسْأَل عن حادثة فلا يدري، وقد شغله منها جمع طرق الأحاديث. وقبيح بالفقيه أن يقال له: ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا؟ فلا يدري صحة الحديث ولا معناه. نسأل الله عز وجل همة عالية لا ترضى بالنقائص بمنه ولطفه".

وأما ابن خلكان فبعد أن أكد أن تاريخ قتل ابن المقفع "لم يكن بعد سنة خمس وأربعين ومائة، وإنما كان فيها أو فيما قبلها" عقب بأنه "إذا كان كذلك، فكيف يُتَصَوَّر أن يجتمع (أى ابن المقفع) بالحلاج والجنابي كما ذكره إمام الحرمين رحمه الله تعالى؟ ومن ها هنا حصل الغلط. وأيضا فإن ابن المقفع لم يفارق العراق، فكيف يقول: إنه توغل في بلاد الترك، وإنما كان مقيما بالبصرة ويتردد في بلاد العراق، ولم تكن بغداد موجودة في زمنه؟ فإن المنصور أنشأها في مدة خلافته، فاختطها في سنة أربعين ومائة، واستتم بناءها ونزلها في سنة ست وأربعين، وفي سنة تسع وأربعين تم جميع بنائها ...

ولما وقفت على كلام إمام الحرمين رحمه الله تعالى، ولم يمكن أن يكون ابن المقفع أحد الثلاثة المذكورين، قلت: لعله أراد المقنَّع الخراساني الذي ادعى الربوبية، وأظهر القمر ... ويكون الناسخ قد حرَّف كلام إمام الحرمين فأراد أن يكتب "المقنَّع" فكتب "المقفع"، فإنه يقرب منه في الخط، فيكون الغلط والتحريف من الناسخ لا من الإمام. ثم أفكرت في أنه لا يستقيم أيضا لأن المقنع الخراساني قتل نفسه بالسم في سنة ثلاث وستين ومائة كما ذكرناه في ترجمته، فما أدرك الحلاج والجنابي أيضا.

وإذا أردنا تصحيح هذا القول وأن ثلاثة اجتمعوا واتفقوا على الصورة التي ذكرها إمام الحرمين فما يمكن أن يكون الثالث إلا ابن الشلمغاني، فإنه كان في عصر الحلاج والجنابي، وأموره كلها مبنية على التمويهات. وقد ذكره جماعة من أرباب التاريخ، فقال شيخنا عز الدين بن الأثير في تاريخه الكبير في سنة اثنتين وعشرين وثلثمائة فصلا طويلا اختصرته، وهو: وفي هذه السنة قُتِل أبو جعفر محمد بن علي الشلمغاني المعروف بـ"ابن أبي العزاقر". وسبب ذلك أنه أحدث مذهبا غاليا في التشيع والتناسخ وحلول الإلهية فيه إلى غير ذلك مما يحكيه، وأظهر ذلك من فعله أبو القاسم الحسين بن روح، الذي تسميه الإمامية: "الباب". فطُلِب ابن الشلمغاني فاستتر وهرب إلى الموصل وأقام سنين، ثم انحدر إلى بغداد، وظهر عنه أنه يدعي الربوبية. وقيل: إنه تبعه على ذلك الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير