ومن البين أن من لا يؤمن بأن القرآن من الله وأنه من أساطير الأولين لا معنى لبحثه في الصحة وجودها وعدمها إلا إذا كان القصد: هل هو مما قاله الرسول حقا أو مما انتحله عليه غيره كما يفعل عتاة الرافضة إذ يتهمون أمانة الخلفاء الأول أعني مسألة تاريخية بحتة. فترد المسألة إلى أحد وجهين:
- وجه يغلب على النقد الأدبي وفيه يكون الكلام على المطابقة للحقيقة من علامات الجهل بمعنى الأدبية: فالتعامل مع القرآن كنص أدبي لا يختلف سواء كان المؤلف واحدا أو كثيرا ومهما قل التناص أو كثر.
- ووجه يغلب على نقد الحديث والسنن هو أمر لا يعني إلا المؤمنين بها لأن غيرهم يعتبرها كلها من وضع البشر ولا معنى للتمييز بين الصحيح وغير الصحيح فيها.
إن عملية تنقية الحديث ليست ذات معنى علمي بالمعنى التاريخي إلا بين المؤمنين وهي تتعلق بمعركة بينهم في مسألة تاريخية حول أمانة المبلغين للحديث أو للقرآن رادين إياها إلى مسألة أمانة الرواية وصدقها. لكن هل ما يصح على الحديث يصح على القرآن إذا لم نهمل المعطيات التاريخية المجمع عليها حتى من المجادلين في القرآن: علميا وعقديا؟
فتاريخيا يعلم الجميع بعدم تدوين الحديث خلال حياة الرسول عدمه الثابت حتى عند المشككين في كتابة القرآن المباشرة لأن ذلك يمثل علة تشكيكهم في السنة التشكيك الذي نقلوه إلى القرآن. ويقتضي المنطق عند كل ذي عقل أن ثبوت عدم كتابة الحديث المباشرة (والنهي عنها) دليل على ثبوت كتابة القرآن المباشرة (والأمر بها). فالنهي عن كتابة الأول تفترض الأمر بكتابة الثاني حتما حتى لو كان ذلك بمجرد مبادرة المؤمنين وليس بأمر من الرسول.
5. وأخيرا فهبنا قبلنا أن المسألة يمكن أن تكون معرفيا ذات دلالة للتمييز بين ما هو من الرسالة وما ليس هو منها - بمعنى المعرفة التاريخية - فإنها مسألة لا تقدم ولا تؤخر من يريد أن يدرس الظاهرة الدينية دراسة علمية بالمعنى الوضعي للكلمة. فلا معنى للدراسة العلمية الوضعية للظاهرة الدينية –أعني الدراسة الانثروبولوجية للمعتقدات والذهنيات-لا معنى لدراستها من خارجها حكما لها أو عليها لأن كل ما فيها هو منها إذ كونه منها يعني أن أصحابها المؤمنين بها يعتقدون أنه منها ولا شيء سوى ذلك. ولا يهم أن يكون ذلك قد توالى من حيث التكوينية قبل أن يصل إلى شكله النهائي كما تتوالى طبقات أي شأن رمزي في الضمير الجمعي.
النتيجة: كل الخلافات حول بعض القرآن خلافات لم ينكرها أحد وهي ترد عند التمحيص إلى أمانة المسلمين في إخبارهم عن نصهم لأن الإبقاء عليها دليل على الأمانة فضلا عن كونها مما يقبل الرد إلى نقائص الكتابة أو اختلاف اللغات بشرط أن نستثني خرافات دعاوى الغلاة من الفرق أو مزاعم من يقيس القرآن الذي نزل على أمة سيدة على ذاتها على الكتابين المتقدمين عليه اللذين نزلا على أمة خاضعة للاستعمار الأجنبي.
وعقديا يميز المسلمون في ما جاء به الرسول بين كلام الله وكلامه. والأول فوق التاريخ ولا يقبل العلاج التاريخي والثاني تاريخي ومن ثم فهو يقبل العلاج التاريخي. وحاصل الأمر وزبدته أن معرفة ما هو من القرآن وما هو ليس منه تبقى في كل الحالات مشروطة بأمرين يحددهما القرآن نفسه:
أولهما هو نظام عقد القرآن نظامه الذي نفترضه لكي نميز بين ما ينتسب إليه وما لا ينتسب إليه سواء انطلقنا بهدف عملي عند المؤمنين أو بهدف المعرفة التاريخية عند غير المؤمن به. ومن ثم فمسألة نظام العقد القرآني متقدمة وهي عندي من جنس نظرية بنية الكائن الحي التي تمكن من الاستنتاج العلمي في حالة علم الإحاثة مثلا: فلو لم يكن لنا نظرية في بنية الكائن الحي لما أمكن أن نستنتج من بعض بقايا الهيكل العظمي مثلا بنية الكائن كلها ومراحل تطوره الممكنة أو الحاصلة. وهذا مطلوب كل بحث في القرآن قابل لأن يجمع بين العقدي والعلمي.
¥