ولنا على بدائية هذا الرأي المستند إلى قياسين خاطئين (قياس ظرفيات تدوين الكتاب بظرفيات التوراة والإنجيل وقياس العرب بعد الإسلام عليهم قبله) خمسة أدلة عقلية قد تغني عن الأدلة النقلية رغم كون هذه الأدلة من جنس التواتر المطلق ورغم ما فيها من مزيد دلالة (وكل من قرأ أمتن الدراسات الغربية في تاريخ القرآن يعلم الأمرين التاليين:
1 - أهم ما فيها من معطيات علمية مستمدة من استقراء النقاش العلمي في أمهات كتب المسلمين حول القرآن وتاريخه.
2 - وجل الدراسات التي يقدمها العلمانيون العرب إن لم تكن كلها هي نسخ باهتة منها لم ترق إلى مقدار درايتها بالموضوع سواء تعلق الأمر بالمصادر والمراجع العربية القديمة أو حتى من حيث علاقتها بالقرآن ذاته شكلا ومضمونا فضلا عن الرقي إلى منهجيتها).
والدليلان الأولان من القرآن نفسه أعني:
1. دليل دعوة القرآن الأكيدة لتدوين المعاملات مهما كانت تافهة حتى إن الآية المتعلقة بأهم مقومات التحقق من المعرفة والحقوق أعني الشهادة والتي هي أطول آية اعتبرته الأساس في منع التلاعب بهما.
2. ودليل تنبيه القرآن لما وقعت فيه الأمم السابقة من تحريف لكتبها. والمعلوم أنه لا شيء يمنع مثل هذا الأمر كالكتابة والانتشار المكتوب الذي يحول دون الانتحال والتغيير. فلا يعقل أن يؤكد القرآن على كتابة كل شيء في المعاملات مهما كان تافها وأن يحذر من التحريف ثم لا يُأمر مبلغه بأن يكتبه وبأن يَأمر المسلمين بكتابته. فمهما زعم الغالي من المشككين للمبلغ من عدم الأمانة فإنه ما كان ليناقض نفسه إلى درجة أمر كل المسلمين في عصره بعدم كتابة القرآن.
والدليلان العقليان المواليان أستمدهما من سلوك الرسول والصحابة في لحظات التأسيس المفصلية. فلنفرض جدلا أن الرسول لم يأمر الصحابة بكتابة القرآن فكيف نفهم عندئذ نهيه إياهم عن كتابة الحديث؟
3. ألا يعني ذلك نهيا عن شروع بعضهم في كتابته بقصد تعميم أمر سابق هو كتابة الوحي وهذا هو الدليل العقلي الثالث؟
4. والدليل العقلي الرابع: إذا كان أبو بكر قد اضطر إلى تذكير عمر بآية:"وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ... " {آل عمران144.} هل كان يمكن أن يبقى عمر (رض) بعد ذلك معتمدا على الذاكرة وقد خانته في أحرج لحظة من حياة الأمة حتى لو تصورناه لم يكن مالكا لنسخة مكتوبة من القرآن الكريم؟ كيف يكون عمر مؤسس الديوان -وذلك يعني إدخال التدوين في الشأن الدنيوي الذي هو تافه بالقياس إلى الشأن الأخروي فضلا عن كون القرآن جامعا بين الشأنين - ثم يهمل كتابة القرآن الذي كان دستور الدنيا والآخرة؟
5. أما الدليل الجامع فهو أن القرآن اسمه الكتاب وهذا الاسم يطلق على نصوص الأديان الأخرى التي لم تكن شفهية بل مكتوبة ومحفوظة ومحروسة من قبل مؤسسة وظيفتها العناية به! ثم إن "الكتاب" ليس مجرد اسم بل هو عقيدة وجودية تعتبر عين الوجود التام هو كونه مكتوبا بكل مستوياته حتى إن الله يكتب على نفسه والحساب يكون بوزن الكتب والسجلات التي تدونها الملائكة في كل آن!
وبذلك يتبين عقلا أن كل السخافات التي تقال عن صحة القرآن وكتابته المتأخرة من أوهام الموتورين الذين يقيسون أحداث تدوين القرآن بأحداث تدوين التوراة والإنجيل حتى يصح لهم دعوى أنه مثلهما قد شابه التحريف والتاريخ أي إن ما حصل لهذين الكتابين ينبغي أن يحصل مثله للقرآن حتى لو كان أول كلام القرآن هو التنبيه إلى حصول التحريف وضرورة كتابة أي شيء مهما كان تافها.
وبذلك يتبين أن بدائية هذه المواقف تثبت عقلا فضلا عن الأدلة النقلية التي يمكن الاستغناء عنها لولا عناد أصحابها بزعم التعالم الذي يكتفي بمضغ الزائف من القضايا لمجرد أن بعض المستشرقين عمموا ما حصل للتوراة والإنجيل مما يتصورونه قاعدة كلية لكأن هذه التجربة ذاتها لم تكن هي عين ما جعل المسلمين من البداية يتحرزون من علل تكرارها فضلا عن كون الكتابين الأولين مر على أهلهما أطوار تاريخية لم يكونوا فيها سادة مصيرهم لصون كتبهم وهو ما لم يحدث للمسلمين ولله الحمد على الأقل في القرون الثلاثة الأولى التي لا يختلف اثنان في أن التدوين قد تم خلالها.
¥