تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وكان كُثَيِّر يوصف بالحماقة، فلا غرابة إذا ما سمعنا منه هذا الكلام إذن. أما فان جوخ فكان العيار فى حالته ثقيلا حَبَّتَيْن، فلهذا أقدم على قطع أذنه ولَفِّها وإرسالها هدية لحبيبته كى يثبت لها شدة تعلقه بها. كما وضع يده، لنفس السبب المجنون، على فتيلة المصباح المشتعل حتى احترقت وفاحت رائحة الشواء. فإذا كان هذا هو رأى الناس فى تصرفات بشر مثلهم، فما بالنا إذا ما أقدم الرب على تصرف مثل هذا بل أشنع وأبشع؟ ثم ما الذى أسكته سبحانه طوال تلك الدهور المتطاولة وجعله يؤجل هذه التضحية المجنونة منذ عصيان آدم وحواء بأكلهما من الشجرة المحرمة إلى ما بعد ميلاد المسيح بنحو ثلاثة عقود؟ بل ما الذى جعله ينتظر كل تلك المدة الممتدة منذ ولادة مريم للمسيح إلى أن بلغ عليه السلام ثلاثين سنة ونيفا؟ لماذا، حين تذكر أن هناك خطيئة أصلية قديمة قِدَمَ البشرية كانت منسية وتحتاج إلى تصفية، لم يأخذها من قصيره فينزل من السماء وينصب من فوره فى أى ميدان عام صليبا ثم يصيح فى المتجمهرين حوله كالعادة: "من يحب النبى يصفق! "، ويطلب من واحد منهم قوىٍّ عَفِىٍّ أن يعكمه ويعلقه على الصليب ويمسمره ويشتمه ويبصق عليه ويضربه بالرمح فى جنبه حتى يصرخ ويسمعه الناس ويشعروا بألمه من أجلهم، ثم يقتله وتنتهى المسألة فى دقائق بدلا من كل تلك اللفة الطويلة العريضة التى نقرؤها فى الأناجيل؟

ولكن ماذا عن الناس الذين مَضَوْا قبل ذلك دون أن تكون التضحية قد تمت بعد؟ وماذا عن الناس بعد هذا؟ هل سيدخلون كلهم الجنة ما دام الله قد ضحى من أجلهم محبةً لهم ورغبةً فى أن يعفيهم من العذاب؟ لكن النصارى لا يقولون هذا، بل يؤكدون أن من لا يرافئهم على عقديتهم هذه الغريبة فى السيد المسيح ذاهب إلى الجحيم لا مُشَاحَّة فى ذلك. فما جدوى الصلب إذن؟ وماذا عن يهوذا، الذى دل عليه اليهود فقبضوا عليه وصلبوه؟ أسيدخل الجنة، وبخاصة أنه كان العامل الأساسى فى تنفيذ المشيئة الإلهية المجنونة فى الموت فداء للمحبوب؟ لكنهم يقولون إنه ملعون، ولن يريح رائحة ملكوت السماوات أبدا. وبغض النظر عن أن النصارى يقولون إن المسيح الرب قد باء باللعنة جراء صَلْبه طبقا لما يقوله العهد القديم فى المصلوبين، وتحمَّلها نيابة عن البشرية، فمعنى حكمهم على يهوذا أن تضيحة الرب بنفسه لا تشمل ذلك الرجل! فما جدوى هذا الذى أقدم عليه المسيح إذن؟ أنقول إن تضحيته بنفسه قد طلعت فاشوشا؟ إن هذا يهدم الأمر كله من القواعد دون هوادة، فهل يقبلون ذلك؟ وحين مات المسيح، الذى هو الرب، فمن أعاده إلى الحياة يا ترى، ولم يكن هناك فى ذلك الوقت رب لأنه كان قد مات؟ بل من جعله ربا مرة أخرى، والرب قد انتهى أمره بنزوله إلى الأرض وتحوله إلى إنسان، والإنسان لا يصنع الأرباب ولا يعيدهم مرة أخرى إلى ربوبيتهم؟ إن الأسئلة الحيرى كثيرة ولا تنتهى، ولكن لا داعى للمُضِىّ قُدُمًا أكثر من هذا، فالضرب فى الميت حرام!

لقد أفهموا المسكينة أن النصرانية هى حب فى حب، وكأننا فى فلم "سنجام" الهندى، الذى عُرِضَ فى مصر فى منتصف ستينات القرن البائد، وكان كله غراما فى غرام ورقصا متواصلا وأغانى تخرّ رومانسية لم نكن نفهم منها كلمة واحدة مكتفين بحلاوة موسيقى القرب الهندية المصاحبة لها، والسلام. والواقع أن كل تصرفات المسيح حسب ما هو مقيد فى الأناجيل تدل على عكس هذا الادعاء، إذ صوروه عصبيا نافد الصبر دائما جافيا شتاما هجاما لا يوقر كبيرا ولا صغيرا ويكره الجميع ولا يطيق أحدا. ولنبدأ بما قاله فى حق اليهود، والمفروض أنه أتى الدنيا ليفدى البشرية من خطيئتها، واليهود جزء من تلك البشرية، فكان ينبغى أن يكف لسانه عنهم، وإلا فلماذا عَنَّى نفسه بمبارحة عرشه فى السماء ومخالطة أولاد البُلَغ الذى اسمهم "بَشَرٌ" والموت فى سبيلهم إذا كان يكره فريقا منهم كل تلك الكراهية؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير