تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لهم من الأنبياء عددا وعدة، ومن الأسفار المقدسة كتاب سماوي المصدر. ومن ثم أجاز الأستاذ العقاد لنفسه، وهو رجل متزن ومتوزان، أن يجزم قاطعا بأن "شأن اليهودية في توضيح هذه الحقائق كان أعظم من كل شأن لها في جزيرة العرب".

وهذه الحقائق التي يعنيها الأستاذ العقاد هي أنه، برغم عدم قراءتهم الصحيحة لإفرازات الواقع على الأقل بالنسبة لمكة، فإن حكاياتهم عن مغامرات أنبيائهم القدامى، وعن دولتهم الغابرة التي أنشأها الملك النبي داودوما لحقها من تهويلات ومبالغات، كانت وراء الحلم الذي داعب خيال سراة العرب وأشرافهم حتى بدا لكل منهم طيف زعامته للدولة الموحدة، مشرقا في الخيال تدعمه ما بدأت تشهده الجزيرة في مناطق متعددة من محاولات لتوحيد القبائل سياسيا: سواء عن طريق التحالفات الجانبية التي شكلت نُوَيّاتٍ مرجوّةً لوحدة أكبر، أو عن طريق إخضاع قبيلة لأخرى، أو التحالفات التي تتفق ومنطق البداوة، والتي كانت تتم بين القبائل المنتمية إلى سلف واحد، مما يجعل انتظامها تحت إمرة زعيم واحد أمرا أيسر، خاصة عند حدوث جلل طارئ أو خطر مشترك. ولا ننسى المحاولات الأخرى المباشرة التي اتخذت صيغة المُلْك وصِبْغته، كمحاولة زهير الجنابي زعيم قضاعة تمليك نفسه على بكر وتغلب أو الممالك التي قامت فعلا من زمن سابق، لكن في ظروف مختلفة، على حدود الإمبراطوريات الكبرى، مثل مملكة الحيرة ومملكة الغساسنة. لكن بقية الناس حتى داخل مكة ممن كانوا يعتبرون أنفسهم عقلاء لم يكونوا مع هذا التفاؤل ولا مع هذا الجموح في الآمال، فهذا الأسود بن عبد العزي يقدم الاعتراض البدهي والواضح والمباشر قائلا: ألا إن مكة لقاح لا تدين لملك. وهو اعتراض يستند إلى قراءة أخرى. فالعرب، أيا كان الظرف الاجتماعي، لا تقبل بفرد يملك عليهم ويسود، لأن معنى ذلك سيادة عشيرة على بقية العشائر، وقبيلة على بقية القبائل، وهو ما تأباه أنفة الكبرياء القبلي وتنفر منه. ولعل هذه القراءة تجد حجتها البالغة في تجربة رجل مثل النعمان بن المنذر، الذي ورث المُلْك أبا عن جد في مملكة الحيرة، ومع ذلك وقف يلقى خطابه أمام كسري الفرس، وفي حضرة وفود دول عدة، مدافعا عن عروبته بقوله: "فليست أمة من الأمم إلا وجهلت آباءها وأصولها وكثيرا من أوائلها، حتى إن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دينا، فلا ينسبه ولا يعرفه. وليس أحد من العرب إلا يسمى آباءه أبا فأبا. حاطوا بذلك أحسابهم، وحفظوا به أنسابهم، فلا يدخل رجل في غير قومه، ولا يُنْسَب إلى غير نسبه، ولا يُدْعَى لغير أبيه. وأما تحاربهم وأكل بعضهم بعضا وتركهم الانقياد إلى رجل يسوسهم ويجمعهم، فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفا، وتخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف. وإنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يُعْرَف فضلهم على سائر غيرهم، فيلقون إليهم أمورهم، وينقادون لهم بأَزِمّتهم، وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حالوا أن يكونوا ملوكا أجمعين".

والخطاب هنا، سواء صحت نسبته للنعمان بن المنذر أو لم تصح، لصاحب رؤية سياسية فذة حاول أن يوضح بإيجازٍ الظرف الاجتماعي العربي الذي حال حتى هذا الوقت دون قيام وحدة سياسية كبرى لعرب الجزيرة، ذلك الظرف المتمثل في نظام قبلي و عصبية عشائرية كانت من لزوم ما يلزم عن شكل المجتمع البدوي غير المستقر للإبقاء على دوام وجود القبيلة باعتبارها وحدة عسكرية مقاتلة يلزمها التماسك اللزج دوما، والذي كانت مادته اللاصقة رابطة الدم التي اكتسبت قدسية مفرطة، وهو ما يفسر الشكل الديموقراطي البدائي التي تمتعت به القبيلة بحيث وقف جميع الأفراد داخلها على قدم وساق بمساواة تامة، وبمعيار الانتساب لأب واحد، وذلك وحده كان كفيلا بإلغاء أي تمايز، إضافة لظرف آخر دعم هذه المساواة، وهو مواجهتهم جميعا لذات المصير دوما كمقاتلين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير