تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

والخطاب يوضح أيضا بشكل وضاء الأسباب التي لم تؤد بالنظام البدوي إلى إفراز مؤسسات سياسية ملكية متوارثة، لأن القبيلة وحدة عسكرية طارئة، وزعامتها بدورها أمر طارئ متغير لمقتضيات الصراع الناشئ وظروفه، تلك المقتضيات التي تحدد سمات الزعيم المطلوب آنيا. وعليه فالزعامة كانت تمنح منحا لصاحب القدرات التي تناسب الظرف ومقتضياته، وهي صفات مكتسبة لا تنتقل بالوراثة، على حين ينضوي الجميع في الظروف الاعتيادية تحت لواء الأحكم، الأكبر، الأكثر دراية والأكثر قدرة على المنح والعطاء. وفي كلتا الحالين تظل المساواة حاضرة، مما جعل البدوي واعيا تماما لفرديته، مصرا على الاعتداد بنفسه بإسرافٍ تمثله دواوين العرب في الحماسة والفخر والاعتزاز بالفرد أو بالقبيلة أو بالنسب.

وفي خطاب النعمان دعم آخر لوجهة نظر الأسود بن عبد العزي، فهو يؤكد أن الأمم إنما تقبل الخضوع لملك فرد في وحدة سياسية إذا "تخوفت نهوض عدوها إليها بالزحف". وقد أثبت الحجاز، ومكة بالذات، أنه بعيد المنال، ولا يتخوف نهوض عدوه إليه. فبينما كانت الممالك العربية قد وقعت تحت الاحتلال أو النفوذ الأجنبي، ففقدت اليمنُ استقلالها منذ الربع الأول من القرن السادس الميلادي وسقطت تحت حكم الأحباش ثم الفرس، وفقدت مملكة الحيرة استقلالها وتحولت إلى إمارة يحكمها أمير فارسي، واضطربت أحوال المملكة الغسانية بعد أن قلب لها الرومان ظهر المجن، فإن منطقة الحجاز بمدينتيها الرائدتين: مكة ويثرب كانت تتمتع باستقلال نقي هيأها له وضعها الجغرافي، ووعورة الطريق إليها، فكانت هي البيئة العربية الخالصة البعيدة عن مجال الصراع الدولي، وعن التأثر بالحضارات الأجنبية بدون أن تفقد التواصل معها، ولم تخضع لحاكم أجنبي. ومع ذلك فلم تكن فيها ممالك بالمعنى الحقيقي، ولا وحدة سياسية كبيرة تنتظم أمر قبائل الحجاز جميعا، وهذا كله إنما هو دعم حقيقي لرأي الأسود بن عبد العزى!

وإزاء كل هذه العوائق الواضحة والمحبطات السافرة للحلم وللأمل وللتوقع لم يجد الآخرون سوى الاهتداء إلى أنه لا حل سوى أن يكون منشئ الدولة المرتقبة نبيا مثل داود. وعندما وصلوا إلى هذا فشا الأمر بسرعة هائلة بين العرب حتى اشتد الإرهاص بالنبي المنتظر خلال فترة وجيزة، وآمن هؤلاء بذلك، وأخذوا يَسْعَوْن للتوطئة للعظيم الآتي، وإن ظلت المشاعر القبلية داخل النفوس التي تهفو للوحدة، وظن كل منهم أن الآتي سيكون منهم، مثل أمية بن عبد الله الثقفي، الذي راودته نفسه بالنبوة و الملك فقام ينادي:

ألا نبي منا فيخبرنا * ما بعد غايتنا في رأس مَحْيَانا؟

لكن العجيب فعلا ألا يمضي من السنين غير قليل حتى تقوم في جزيرة العرب دولة واحدة بل دولة قوية و مقتدرة تطوي تحت جناحيها، وفي زمن قياسي، ممالك الروم و العجم بعد أن أعلن حفيد عبد المطلب بن هاشم: محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أنه النبي المنتظر! ".

والحق أن العبارة التى يدور عليها الكتاب لا يمكن أن تكون صحيحة، على الأقل بالمعنى الذى يقصده القمنى وأمثاله من العباقرة كخليل عبد الكريم الفلحاس الأعظم الذى كان كالقمنى يزج بنفسه أو يزج به من يدفعونه من الخلف فى المآزق والكُرَب العظام التى لا يستطيع السداد فيها. ولكن علينا أولا أن نحاول معرفة المصدر الذى استقى منه القمنى هذه العبارة. ولقد ألفيته نقلها من كتاب "الدين فى شبه الجزيرة العربية" لأبكار السقاف الكاتبة اليمنية التى وجدتُ بعضا من ذوى التوجهات الفكرية المعينة يشيدون بها ويطنطنون لما تركته وراءها من كتب تحمل اسمها وتتسم بالركاكة والعسلطة والمعاظلة حتى إنها لتكاد تتوخى دائما تأخير ما حَقُّه التقديم وتقديم ما حَقُّه التأخير من عناصر الجملة دونما أدنى داع. إنما هى حذلقة، والسلام. وبالمناسبة فكثير من الأفكار فى الكتاب الذى يحمل اسم القمنى وذلك الذى يحمل اسم أبكار السقاف واحدة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير