تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهذه سمة الكتابات القمناوية أو بالأحرى: الكتابات التى تحمل اسمه، إذ هى انعكاس مباشر لما عند الآخرين، وبالذات من المستشرقين والمبشرين. خذ مثلا انتقاده لـ"طريقة جمع المصحف العثماني التي لم تراعَ في تصنيفها وتبويبها قواعد التصنيف والتبويب المعروفة: كأن تجمع آيات التعبد معا، والتشريعات معا، وعلى الترتيب الزمني والقصص الوعظي معا، وقوانين الأخلاق معا. بل أنها لم تراع الترتيب الزمني للآيات وارتباطها بأحداث الواقع وجدلها معه وتأثرها به وتأثيرها فيه وتغيُّرها وتبدُّلها حسب متغيرات هذا الواقع. وهى سمة فارقة تميز الإسلام عن بقية الأديان. الحكمة الوحيدة في الترتيب العثماني، إذا كانت حكمة، هي السير في ترتيب النصوص من السور الأطول إلي السور الأقصر دون أي رابط موضوعي ولا زمني. هذا بينما السور الأقصر كانت هي الأُولَى زمنا بحيث لو أردت قراءة القرآن قراءة شبه مرتبة فعليك البدء بآخر المصحف رجوعا إلى أوله ... ولا عبرة هنا بقول من يصرون على أن هذا الترتيب توقيفي، أي كان وقفا على النبي وجبريل، وأنهما من رتباه على هيئته الحالية، لأنه لو كان الأمر كذلك ما ظلت مصاحف الصحابة الكبار على اختلافها بعد موت نبيهم وحتى زمن عثمان بن عفان، ولأنه حتى لو كان الأمر كذلك فإنه يظل بحاجة إلى إعادة نظر".

وهذه الفكرة ذاتها قد أثارها منذ سنوات كاتب تونسى اسمه يوسف صديق لا يستطيع أن يقرأ القرآن قراءة صحيحة بل يخطئ منه فى الأَوَّلِيّات. وقد رددت وقتها على سخافاته فى مقال لى منشور على عدد من المواقع المشباكية المختلفة بعنوان "يوسف صديق وأباطيله حول القرآن". وكلام صديق هو بدوره انعكاس لما يردده المستشرقون والمبشرون دائما. وكانت صحيفة "القاهرة" المصرية قد نشرت في الصفحة الخامسة (العدد 144) حوارًا مع يوسف صديق بجامعة السوربون بعنوان "المفكر التونسي يوسف صديق: نحن لم نقرأ القرآن بعد" أدلى فيه الأستاذ المذكور ببعض الآراء التي استوقفتني ورأيت أنها تحتاج إلى مراجعة لأنها تثير قضايا على قدر عظيم من الأهمية لا يمكن أن يمر كلامه فيها دون تمحيص وتعقيب.

ولتكن بداءتنا عنوان الحوار نفسه: "نحن لم نقرأ القرآن بعد"، وهو عنوان الكتاب الذي جاء في حديثِ صِدّيق إلى الصحيفة أنه بسبيل إعداده. وقد أدلى الرجل بكلامين في هذه المسألة: الأول في بداية الحوار، وهو أننا "كلما تقدمنا وتعمقنا في الفكر و الفلسفة استطعنا أن نفهم القرآن بشكل يتواءم مع التقدم في معرفتنا". وهذا كلام لا نستطيع إلا أن نتفق معه فيه، فالقرآن أوسع وأعمق وأبعد غورًا من أن يفهم حق الفهم دفعة واحدة، بل تظل هناك دائمًا، مهما طال الزمان، أبعاد تحتاج إلى من يحاول ارتيادها واكتشاف ما فيها من أسرار. وسبب ذلك أنه من عند الله، فهو يمثل المعرفة المطلقة، أما معارف البشر فهي محدودة ونسبية. لكن الأستاذ صديق قد عدّل كلامه هذا قرب خاتمة الحوار (والعبرة، كما يقولون، بالخواتيم) فقال إننا لم نقرأ القرآن بعد، بما يعني بوضوح أن كل ما قمنا به طوال الأربعة عشر قرنًا من تلاوة القرآن وتفسيره ودراسته في كتب تعد بالآلاف، فضلا عما وُضِع حوله من معاجم واسْتُخْلِص منه من علوم ... إلخ ... إلخ، هو عبث في عبث، وأنه سيكون أول من يقرأ القرآن من عباد الله. أي أن علينا أن نضرب صفحًا عن كل هذا التراث القرآني الذي شاركت في صنعه عشرات الأجيال ونشتغل فقط بما سيجود علينا به قلمه في هذا الصدد، فهل من يوافق على هذا الكلام الغريب الذي أظن (وبعض الظن عين العقل بكل يقين) أنه هو مقصد المؤلف الحقيقي، وإن لم يشأ أن يجابهنا به في بداية الحوار بل مهّد له بأن القرآن "لا يكشف عن دلالاته مرة واحدة"؟ وهو أسلوب من التدرج يلجأ إليه بعض الكتاب بغية تحذير القارئ المسكين!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير