تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي السؤال الثاني و الثالث تتساءل مُجْرِية الحوار عما طرحه د. يوسف صديق في كتابه الذي صدر فى ذلك الوقت باسم "القرآن كتاب مفتوح" (وإن كان العنوان الفرنسي كما يظهر في صورة الغلاف المنشورة مع الحوار هو "القرآن: قراءة جديدة وترجمة جديدة") من فكرة تدعو إلى تفسير آيات القرآن حسب تواريخ نزولها لا حسب ترتيبها في المصحف، وكان جوابه أنه لا يمس سوى عمل بشري لا صلة له بالقدسية. يقصد أن ترتيب الآيات داخل كل سورة هو من عمل الصحابة. وهذا غير صحيح، ولم يقل به أحد إلا هو، إذ ادعى أن الرسول قد ترك القرآن قِطَعًا متفرقة لا تنتظم في سورة، وهو ادعاء باطل ألقى به الأستاذ صديق باستخفاف لا يليق بأستاذ جامعي أو غير جامعي.

لو كان الكلام اقتصر على "تفسير" القرآن حسب ترتيب النزول لآياته فلربما لم يجد د. صديق من يختلف معه اختلافًا شديدًا، فهذا لون آخر من ألوان الدراسات القرآنية الكثيرة رغم الصعوبة البالغة بل رغم الاستحالة التي تكتنف مثل هذه الدراسة القرآنية لأن كثيرًا جدًّا من آيات القرآن لا نعرف لها سبب نزول، ولأن قسمًا من الآيات الأخرى قد اخْتُلِف حول سبب نزوله. ومن قبلُ قام العالم الفلسطيني محمد عِزّة دَرْوَزة بتفسير القرآن حسب الترتيب النزولي للسور مع الصعوبة الشديدة في ذَلك لأنه لا إجماع هنالك على مثل هذا الترتيب، علاوة على أن عددًا كبيرًا من سور القرآن لم تنزل منه السورة دفقة واحدة ولا دفقات متتالية، قلت: لو كان الكلام اقتصر على "تفسير" القرآن حسب الترتيب الزمني لآياته فلربما لم يجد المؤلف من يختلف معه اختلافًا شديدًا، بيد أن كلامه في الجواب عن السؤال المذكور يشير بوضوح إلى أن المسألة تتجاوز هذا إلى الدعوة لـ"ترتيب" آيات القرآن كله حسب تاريخ نزولها لا إلى "تفسيرها". ومعنى هذا أن تنفرط آيات القرآن كما تنفرط حبات المسبحة و ينهار بناؤه إلى أن يهلّ علينا العبقري الذي يقدر على صنع "المستحيل" فيعيد ترتيبه حسب التاريخ الخاص بنزول كل آية، وهو ما لن يتحقق دهر الداهرين، اللهم إلا إذا قال د. صديق إنه هو ذلك " العبقري المنتظر"! وهيهات أن نصدقه! ومرة أخرى نقول إن الكلام في هذا الحوار يبدأ بفكرة بريئة ثم يفاجَأ القارئ بأن الأرض الصُّلْبة التي كانت تحت قدميه قد استحالت بقدرة قادر إلى رمال متحركة تريد أن تبتلعه ابتلاعًا.

ولا يقف الإرباك الذي يسببه الحوار للقارئ عند هذا الحد، إذ نجده ينتقل بغتة إلى الحديث عن دعوة الأستاذ التونسي لسور القرآن حسب ترتيب نزولها. وهذا شئ غير ترتيب آياته الكريمة حسب تاريخ وحيها كما أشرنا من قبل وقلنا إنه أمر من الصعوبة جدًّا بمكان، وهي دعوة يجري فيها الرجل على درب المستشرقين، وليس هو ابن بجدتها كما يريد أن يوحي للقارئ. وأمامي الآن ترجمتان إنجليزيتان للقرآن الكريم حاولتا هذه المحاولة: إحداهما للقسيس البريطاني رودويل، والثانية للمدعوّ: داود، وهما تختلفان في ذلك الترتيب اختلافًا بعيدًا، كما أن بعض مترجمي القرآن ممن التزموا ترتيب السور حسبما ورد في المصحف يصدّرون ترجمتهم بدراسة عن القرآن يتناولون فيها، ضمن ما يتناولون، مسألة ترتيب الوحي ترتيبًا زمنيا محاولين استخلاص السمات المضمونية والأسلوبية التي تميز كل مرحلة في تاريخ نزوله، وإن اقتصر الأمر في ذلك على الخطوط العامة. وممن فعل ذلك "إدوار مونتيه" السويسري و"بلاشير" الفرنسي في ترجمتيهما للقرآن إلى الفرنسية. ويجد القارئ تفصيلا لهذا الأمر في الباب الثاني من كتابي "المستشرقون و القرآن"، وهاتان الترجمتان أمامي الآن أيضا وأنا أكتب هذا الكلام.

على أن د. صديق، في جوابه عن قلق الأستاذة التي أجرت الحوار معه مما تمثله دعوته تلك من مساس بقدسية النص القرآني، ينبري مؤكدًا أننا نحن الذين قد ابتدعنا هذه القدسية. وهذا كلام خطير جدا، فالقرآن مقدس لأنه من عند الله لا لأننا الذين خلعنا عليه هذه القداسة. صحيح أن من لا يؤمن بأن القرآن وحي إلهي لا يرى فيه نصًّا مقدسًا، لكننا نحن المسلمين نؤمن بقدسيته، وإلا فلسنا مسلمين. هذا أمر بديهي، أليس كذلك؟ والكاتب يؤكد إيمانه بالقرآن، فكيف لا يراه كتابًا مقدسًا؟ أما دعواه بأننا قد "ألَّهنا" الرسول عليه الصلاة و السلام فهي دعوى غريبة بل منكَرة، إذ لا يوجد مسلم واحد على وجه الأرض يقول

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير