تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولقد ألف الرجل كتابه كى يقول لنا إنه قد كفر بالله لأنه سبحانه لم يستجب له وأنه سوف يعتمد من الآن فصاعدا على نفسه وقدراته، فهل انحلت مشاكله بهذه الطريقة؟ وهل صار قادرا على تحقيق كل ما تصبو إليه نفسه؟ لا هو ولا أجعص جعيص فى الكون يستطيع أن يزعم شيئا من هذا. ثم أتراه يستطيع أن يثبت عدم وجود إله؟ أم تراه يزعم أنه هو إله نفسه؟ وقبل ذلك كله هل قال الله إنه سوف يحل كل مشكلة للإنسان فى هذه الدنيا؟ ثم إن الاستجابة للدعاء لها أكثر من صورة حسبما وضح لنا الرسول مما سنتناوله بالتفصيل فيما بعد.

وفى (ص237 وما بعدها) نجد الوسواس الخناس يقول إن وجود الله ليس عليه دليل، ومن ثم فلا معنى للألوهية، مع أن هذه المقدمة لا تؤدى إلى هذه النتيجة. ثم إنه يقول مع هذا إن الإنسان محتاج إلى الله حاجة الطفل إلى الأبوين. أفليس هذا دليلا آخر على وجود الله؟ وإلا فمن الذى غرس هذه الحاجة فى نفوسنا؟ ثم إننا بعد ذلك نراه (ص244) يسوق مبررات إنكاره لوجود الله، ليعود غير بعيد (ص247) فينكر أن يكون قد أنكر وجود الله أو يريد إنكاره. وفى موضع آخر نجده يؤكد أن من السهل إقامة الدليل على وجود الله وعلى عدم وجوده جميعا، بمعنى أن الإيمان بالله يشكل معضلة لا يمكن حلها، إذ من الميسور على المؤمن والملحد كليهما إقامة الدليل على صدق ما يعتقد به. وهذا، كما يرى القارئ، منتهى التخبط والتناقض. ومن العجيب أن عباس الهلاس بعد ذلك كله يريدنا أن نؤمن بأنه يتبع المنهج العلمى وأن كل ما يكتبه أو يعتقده إنما يجرى على أصول المنطق الذى لا يخر منه الماء! ومع هذا فقد سبق منه القول (ص50 - 51) بأنه لا يريد من الناس أن تترك الدين لأن هذا مطلب شبه مستحيل، ثم سرعان ما يرتدّ مطالبا إياهم بترك الدين وإنكاره والكفر به.

ويقول (ص48) إنه سوف يطبق على القرآن منهج ديكارت الشَّكِّىّ، ولكن على نحو أفضل مما صنع ديكارت، الذى لم يستطع رغم ذلك (كما يقول) أن يمضى قُدُمًا مع منهجه فخامر، أى لم يُخْلِص لهذا المنهج كما ينبغى أن يكون الإخلاص فاستبعد تطبيق الشك من أمور الإيمان مع أن ذلك المنهج يستلزم أن يبدأ الباحث من الصفر فيشك فى كل شىء وينكر كل شىء ويحاول أن يثبت من جديد صحة كل ما يراه أو يسمعه أو يلمسه أو يذوقه، فضلا عن أى شىء يخطر له على بال أو يفكر فيه. فهل ترى عباس الهجاص قد أنكر كل شىء وبدأ من الصفر كما يقتضى هذا المنهج؟ بالطبع لا. إنما هى تهاويل وطنطنات وفقاقيع كلامية ليس إلا، يريد أن يوهم بها السذّج الأغرار أنه فيلسوف كبير وأنه سوف يكسّر الدنيا تكسيرا مع أنه شخص مسكين مختل العقل والشعور. وهنا يقول إن تطبيق المنهج العلمى على القرآن سوف يهدم القرآن، غافلا عن أن الله قد ألح على الإنسان فى تشغيل العقل قبل أن يختار الإيمان أو الكفر. وهو يستشهد هنا بالإمام أبى حامد الغزالى، صاحب رسالة "المنقذ من الضلال" التى حكى فيها عن أزمة الشك التى اعترته فى مرحلة من مراحل حياته، وانتهت به إلى بَرّ الإيمان واليقين بعدما حولها إلى منهج فلسفى محكم أخذه ديكارت دون أن ينسب ذلك اللصُّ الفضلَ لصاحبه، فضلا عن استبعاده تطبيق الشك على الإيمان على عكس الغزالى، الذى أخضع كل شىء عنده لذلك الشك حتى بلغ ما استراح به عقله من محنة القلق والارتياب.

وقد غفل عِبْس فى هذا السياق (لأنه مغفَّل بطبعه) عن أن الغزالى حين شك وأخضع كل شىء للمنهج العلمى إنما كان يأتمر بأوامر القرآن، مثلما أننى فى كتابَىَّ: "مصدر القرآن"، و"القرآن والحديث- مقارنة أسلوبية" إنما كنت أطبق المنهج العلمى ولا أومن إيمانا أعمى، ولكن دون طنطنات جاهلة كالتى يطنطن بها عبس الجاهل الغليظ العقل المنكوس الذوق الذى يتصور مع ذلك أنه أصح الناس عقلا، وأن ذوقه الأدبى واللغوى أحسن الأذواق ذوقا. كذلك فالصحابة حين آمنوا إنما أعملوا عقولهم: كل بطريقته، ولم يؤمنوا دون تفكير. وعلماء المسلمين حين درسوا واختلفوا إنما كانوا يعلمون عقولهم ولا يؤمنون إيمانا أعمى، وإلا لكان إيمانهم شيئا واحدا. ونبى المسلمين قد حث على الاجتهاد، أى على العلم والتفكير، وبين أن المجتهد مأجور سواء كانت النتيجة صوابا أو خطأ، وهو ما لا وجود له فى أى دين أو ملة أو مذهب أو فلسفة. فلم التساخف إذن؟ الواقع أنه لو كان هذا الكذاب مسلما من قبل حقا

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير