تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومع ذلك فزعمه بأن ابن المقفع مثلا أحد من هاجموا القرآن هو زعم متهافت لا يصمد للنقد كما وضحتُ فى دراستى الطويلة عن هذا الموضوع فى المشباك، إذ بينت أن الرجل كان، فيما تقول كتاباته ومواقفه، إنسانا مؤمنا بالله وكتابه ورسوله، وليس فيما تركه وراءه من مؤلفات وأخبار ما يمكن الاستناد إليه فى اتهامه بالزندقة، فضلا عن الزعم بأنه فكر فى تقليد القرآن، ودعنا من أن يكون فعلا قد ألف كتابا يتحدى به الكتاب المجيد. وعنوان الدراسة التى وضعتها عن ابن المقفع ونفيت فيها ما قيل عن زندقته هو: "هل كان زنديقا؟ هل كتب معارضة للقرآن؟ كلمة فى عقيدة ابن المقفع".

وفى ص48 يعلن عباس الهجاص كفره بإله القرآن. فلماذا إله القرآن وحده، وهو قد كفر بالله عموما؟ ولماذا القرآن وحده، وليس الكتاب المقدس أيضا، وهو أحرى بأن يركز عليه أو على الأقل: أن يساويه بالقرآن، أو يلحقه به؟ لكنه قد عميت عيناه فعاد لا يرى إلا القرآن بعدما قال كلمةً سريعةً عابرةً فى مهاجمة المسيح والنصرانية، كلمةً لذر الرماد فى العيون ليس إلا. ومثلها انتقاده للقديس أوغسطين مثلما انتقد الغرالى (ص74). كذلك نجده فى ص49 - 50، 65 وما بعدها يقول إنه قد كفر بالقرآن لما فيه من فرقعات كلامية لا طائل وراءها وعموميات فضفاضة لا يستطيع الإنسان أن يقبض منها على شىء، متجاهلا أن هذاالقرآن هو الذى غير وجه التاريخ ثقافة ودينا وسياسة واقتصادا كما قال هو نفسه من قبل حسبما مر بنا. وهذا دليل آخر على تخبطه وارتباك أفكاره وعقله.

وهو يؤكد هنا أن القرآن قد حكم على نفسه بالإدانة لأن فيه اختلافا كثيرا، وهو ما أنكره فى موضع آخر وجعل عدم وجوده مقياسا لصدقه. وقد مر بنا غير بعيد كيف أن مقدم الكتاب قد برَّأ القرآن مما حدث للمؤلف من كفر وتمرد، حاصرًا المسؤولية فى المسلمين. وأعجب من ذلك أن عباس يعود بعد قليل فيرمى القرآن يكل نقيصة ويحمّله وزر كل شىء. وهكذا يسود التخبط والتشنج والاضطراب كلام الرجل. ومع هذا فإنه، فى آخر الفقرة الثانية من ص 277، يقع فى فلتة من فلتات اللسان الكاشفة الفاضحة فيقول عقب فاصل طويل حاد من إنكار مطلق لوجود الله ورحمته: "ولكن الله سَلَّم"! فأى ارتباك عقلى وعقيدى هذا؟ وفى (ص85) نراه يصف طه حسين: بـ"المغفور له". أليس هذا أمرا مضحكا من رجل يعلن أنه كافر بالله واليوم الآخر؟ ترى ما معنى الاستغفار لطه حسين إذن؟ ومن سيغفر له إذن ما دام الله غير موجود كما يزعم عبس أبو عقل جِبْس؟

وهو يبذل كل جهده للبرهنة على أن أسلوب القرآن أسلوب غير معجز، قائلا إنه أسلوب عادى فيه وفيه، ومؤكدا أن أسلوب العقاد والتوحيدى والجاحظ وابن المقفع ... إلخ أفضل من أسلوب القرآن، جاهلا بل متجاهلا أن هؤلاء العمالقة هم برغم أنفه وأنف من يستفزونه لمهاجمة القرآن يؤمنون أن القرآن هو من عند الله لا من عند محمد. بل إن الجاحظ والعقاد مثلا ينافحان بقوة عن الإسلام وكتابه الكريم. وبالنسبة إلى طه حسين فإنه، كما نعرف جميعا، يحرص على تقليد أسلوب القرآن فى ألفاظه وتراكيبه التى قلما يستعملها أحد الآن، ككلمة "فَصَل عن" (بمعنى "غادر")، و"إنْ كادوا ليفعلون كذا" (بمعنى "لقد كادوا أن يفعلوا كذا) مثلا. ومن يُرِدْ أن يطلع على المدى الشاسع لتقليد القرآن فى أسلوب طه حسين فليرجع إلى الفصل الذى كتبته عن مجموعته القصصية: "المعذبون فى الأرض" فى كتابى: "دراسات فى النثر العربى الحديث". فما رأى أبى العبابيس إذن؟ لا بل إن أسلوب عِبْس ليعكس تأثيرات قرآنية كثيرة ساطعة رغم كل ما قاله فى حق القرآن، مما يدل على أنه يعاكس ضميره الداخلى الذى يدرك كم أن أسلوب الكتاب المجيد معجزٌ ومسيطرٌ!

وهو يزعم أن مدح المسلمين للقرآن إنما سببه ما حققه القرآن من غلبة وسلطان، إذ للسلطة تأثيرها على العقول والأحكام (ص69). لكن فاته أن القرآن لم تكن له سلطة يوم آمن الناس به وتفانَوْا فى الدفاع عنه. ثم أى سلطان تتمتع به دولة الإسلام الآن حتى يظل كبار الكتاب والنقاد فى العصور الحديثة يَرَوْنَ فى أسلوبه المثال الأعلى فى البلاغة والأناقة؟ وبالمثل يزعم أن ركاكة القرآن قد لوحظت من قديم، ولكن إما أن ملاحظيها قد ماتوا فى الحروب ضد الإسلام وحُذِفت أقوالهم، وإما أنهم آمنوا ودخلوا فى دائرة التأثير القرآنى المشلّ للعقل (ص151). لكن لو

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير