تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

كان الذين ماتوا قد قالوا شيئا ضد القرآن لرواه القرآن والمسلمون على عادتهم فى رواية كل شىء. وأما من آمنوا به فالسؤال هو: كيف آمنوا أصلا لو كانوا لاحظوا ركاكته، فى الوقت الذى كان ولا يزال يتحدى الجميع أن يأتوا بمثله؟ والمضحك أنه فى مواضع أخرى من الكتاب يتهم القرآن بأنه يناسب الشخصية العربية التى تفتتن بالألفاظ وتحب أن تتكلم ولا تقول شيئا، ومن ثم كان تأثيره الشديد على العرب. أى أن العرب افتتنوا به ولم يَرَوْا فيه شيئا من الركاكة كما يزعم! لكنه هو نفسه قد ذكر بكل فرحة وشماتة أن القرشيين كانوا يسخرون من القرآن ويتَحَدَّوْنه ولم يؤمنوا به بسهولة. فكيف يفسر هذا فى ضوء ما قاله؟ ثم كيف يفسر دخول غير العرب فى الإسلام من يومها وحتى الآن وإلى ما شاء الله؟ ألا يرى القارئ العزيز كيف يترنح الرجل متخبطا ذات اليمين وذات الشِّمال؟

ومُضِيًّا مع انتقاده لأسلوب القرآن الكريم فإنه يعترض على الحروف المقطعة قائلا إنها تدخل فى باب الغموض الذى يسىء إلى النص (ص40). وكان هذا الاعتراض يكون له معنى لو أن الأمر يتعلق بعبارات غير مفهومة المعنى. أما وأنها مجرد "حروف مقطعة" فالمتوقع ألا يكون لها معنى فى ذاتها. ومع هذا فالملاحظ أنه يعقبها فى كثير من الأحيان ما يفيد بأن آيات القرآن إنما قد رُكِّبَتْ من تلك الحروف، ومع ذلك عجز العرب عن الإتيان بمثلها رغم تحدى القرآن لهم بذلك، كما فى قوله تعالى فى أوائل سور البقرة والأعراف وهود والشورى مثلا: "الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) "، "المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) "، "الرْ كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) "، "حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ". أما فى الحالات الباقية فمعظمها يقترب من هذا المعنى على نحو أو على آخر.

وقد قام بعضهم بإحصاء تردد هذه الحروف فى السور التى ابتدأت بها فوجد أنها تتكرر فى تلك السور أكثر مما تتكرر الحروف الأخرى، وأن نسبة ذلك التكرر تتسق مع ترتيب كل حرف فى هذه الحروف فى مطلع السورة. فإذا كان لدينا "الم" مثلا كما فى أول سورة "البقرة" فإن "الألف" تكون أعلى تلك الأحرف الثلاثة ترددا فى تلك السورة، يليها "اللام" فـ"الميم". وهناك من يرى أنها اختصارات لبعض أسماء الله الحسنى. وفى كتاب الدكاترة زكى مبارك: "النثر الفنى فى القرن الرابع" أن بعض المستشرقين يزعم أنها رموز موسيقية لضبط ترتيل السور التى افتُتِحَتْ بها. ومن الشبان المتعجلين غير الفاهمين من كتب مدعيا أنها كلمات مصرية قديمة، رغم أنه لا يعرف شيئا عن تلك اللغة بل لا يعرف شيئا عن اللغة العربية ذاتها. ومن المضحك أنه يقول إنها كلمات هيروغليفية مع أن الهيروغليفية ليست لغة بل نوعا من أنواع الخطوط كما نقول الآن: "خط الرقعة أو خط الثلث" مثلا، وهو ما يعطينا فكرة عن مستواه فى العلم والفهم.

ومع ذلك كله فليكن أن تلك الحروف إنما استعملت فى افتتاحيات بعض السور كى تثير التطلع والالتفات وتجذب الأذن، وبخاصة فى بدايات الوحى فى مكة. وكان المتنبى يتعمد فى بعض مطالع قصائده أن تكون لافتة للانتباه مثيرة للتعجب، كقوله مثلا:

ذي المَعالي فَلْيَعْلُوَنْ مَن تَعَالَى * هَكَذا هَكَذا، وَإِلاَّ فَلاَ لا

وفى العربية أداة تسمَّى: "ألا" الاستفتاحية، وهى من الكلمات التى لا تدل إلا على أن هناك كلاما قادما، فوظيفتها لفت الانتباه إلى ذلك الكلام. ولعل من المفيد هنا أن نذكر كلمة " well"، التى يبتدئ بها معظم الإنجليز كلامهم مع الآخرين دون أن يقصدوا من ورائها شيئا محددا، اللهم إلا لكى يعطوا أنفسهم مهلة للتفكير فيما ينبغى أن يردّوا به على من يخاطبهم. وليكن هذا مما أبدعه القرآن فى لغة الضاد، وما هذا بالشىء القليل؟ وللأدباء والفنانين إبداعات عجيبة من هذا الباب وأشباهه، وربما لا يكون لها معنى محدد، ومع ذلك فإنها تفعل فى النفس الأفاعيل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير