ويفد على خاطرى الآن تقليد أسمهان لصوت الطيور فى أغنيتها التى لحنها لها مدحت عاصم: "يا طيور"، فقد كانت شيئا جديدا وبديعا فى حينها. وثَمَّ أغنية لمحمد فوزى لا يستعين فى موسيقاها بأية آلة، مكتفيا بالأصوات البشرية فى تقليد العود والكمان وما إلى ذلك. وقد سمعت أنه قد اضطُرَّ إلى ذلك اضطرارا، إذ غاب أفراد التخت ذات مرة، فلم يؤجل تقديم الأغنية، بل طلب من الجوقة أن تؤدى وظيفة الآلات فقبلوا، وكانت فتحا فى عالم التلحين، وإن لم يفكر أحد آخر فى انتهاج هذا الطريق مرة أخرى. وفى أغنية "الربيع" نسمع فريد الأطرش يترك الغناء فى منتصف الأغنية ويلقى بيتين من أبياتها إلقاء عاديا دون تنغيم، ليعود بعدها بقليل إلى التنغيم والتطريب. وفى مقدمة قصيدة "فجر" لرياض السنباطى نسمع كروان الإذاعة محمد فتحى يلقيها بصوته الأنيق العميق الذى يبدو للآذان وكأنه آتٍ من وراء الغيب، حتى إذا فرغ منها خطا السنباطى إلى الأمام ليقدم الأغنية كرة أخرى، ولكن بتطريبٍ وغناءٍ هذه المرة. أما أم كلثوم فقامت وحدها بالدورين معا فى قصيدة "حديث الروح"، التى ترجمها الشيخ الصاوى شعلان من أشعار محمد إقبال، إذ ألقتها أولا إلقاء عاديًّا، ثم عادت فغنتها، مبدعة فى الأداءين جميعا.
وهناك موال سمعناه من المطرب شفيق جلال ونحن شبان صغار فى بدايات ستينات القرن المنصرم يقول فيه مؤلفه سيد قشقوش:
أنا بَعَلِّمِ الصبر يُصْبُرْ علي صبر حبيبْ جارْنا
وبَقُول: يا صبر، صَبْرَكْ عَلِيهْ حتى يِجِي جارْنا
إنْ كانْ غِيرْنا حِلِي، واحْنا اللِّي مَرَّرْنا اللهْ يِهَوِّنْ عليكْ، واحنا يِصَبَّرْنا
قالْ: يا خُوخْ، خانونا الحبايبْ، واحْنا لَمْ خُنَّا
قال: يا لَمُون، لامُونا الحبايبْ، واحنا لم لُمْنا
قال: يا نبق، نبقي عيش وملح كانْ بِينَّا
قال: يا مشمش، مِشِينا فْ هواهمْ، واللي مِشِي هُمَّا
قال: يا نخل، إِخْلِي مكان واسمع ما كانْ بِينَّا
يا عود ريحان، رَيَّحْ قلوبْ سابق رَيَّحُوكْ هُمَّا يا تَمْر حِنَّهْ، رَحَلْنا وحَلُّوا منازلْنا
فأما عِبْس وأمثاله ممن طمس الله على قلوبهم وحرمهم من الذوق الأدبى والفنى فلسوف يقولون مستنكرين: ما علاقة الخوخ والليمون والمشمش والنخل والريحان وتمر الحنة بما نحن فيه؟ إن هذه فواكه وزهور، وهى للأكل والشم، وليست للشعر والغرام. إلا أن فى الموال رغم أنف عبس روعة وإبداعا وإيجاعا يرجع إلى هذا الجديد الذى لا يفهمه ولا يتذوقه أبو العبابيس! وأرجوك، يا قارئى العزيز، أن تأخذ بالك من جملة "لَمْ خُنَّا" و"لَمْ لُمْنَا" العجيبة التى دخلت فيها "لم" على الفعل الماضى، وهو غريبٌ جِدُّ غريبٍ، ومع هذا فهو جميلٌ هنا جِدُّ جميلٍ. ثم يأتى حسين السيد فى أغنية"حِنّْ"، التى يؤديها محمد عبد الوهاب، فيدفع استعمال "لم" خطوة أخرى إلى الأمام متحديا ما نعرفه من تركيب الكلام، قائلا على لسان الحبيب لحبيبه القاسى:
يا اللى زرعت الهوى فى قلبى، إمْتَى تِحِنّْ؟ عُزَّالى حَنُّوا عَلَيّا وإنْتا لَمْ بِتْحِنّْ مُدْخِلا "لم" والباء معا على المضارع، الذى لم تخلع عليه "لم" معنى الماضى، بل استمر يدل على الحضور والاستمرار، فصارت "لم" بمعنى "مُشْ" العامية لا أكثر ولا أقل. وهذا استعمال جديد بدلا من "مُشْ بِتْحِنّ"، ومن لا يعجبه فليشرب من البحر. وما من مرة سمعت الأغنية ووصلت منها إلى هذا البيت بذلك التركيب العجيب إلا وهام ذوقى فى أودية الإبداع والاستمتاع. وملعون أبو خاش كل نطعٍ بليد!
ومن هذا أيضا التنويعات العجيبة التى أدخلها زكى مبارك على استعمال "أما بعد" كقوله مثلا: "وبعد، فأما بعد"، أو "ثُمّ أما بعد فقد ... "، أو "أما بعد، وقد تعبتُ من أما بعد، فهذه ملاحظات أقدمها ... "، أو "أما بعد، وقد أشقتنى أما بعد، فأنا أسارع إلى ... "، أو "أما بعد، وقد أشقتنى وستشقينى أما بعد، فهذا قصيد فى ... ". وما زلت أذكر الدهشة التى اعترتنى حين سمعت فى الصبا الباكر أحد زملائنا فوق المنبر وهو يباغتنا قائلا بعد الديباجة الأولى فى خطبة الجمعة ونحن جلوس على حصير المسجد نرمقه فى مكانه العالى: "أما قبل"، فكانت شيئا مدهشا أثار اللغط والجدال بيننا فترة طويلة! ولو كان مبتدع عبارة "أما بعد"، التى كانت فى وقتها شيئا عجيبا مدهشا يحير العقول، يعرف أنها سوف يحدث لها كل هذا، وكان ضيق العطن
¥