تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

حتى قوله عز شأنه: "وما من دابَّةٍ فى الأرض إلا على الله رزقُها" يسخر منه أبو الأعباس الهَلاّس مخطئا ومشككا، إذ لا يعنى عنده إلا أن الدابة، أية دابة، لا يمكن أن تموت من الجوع أبدا. وما دامت هناك دواب تموت من الجوع فالآية كاذبة إذن ولا تقول الحقيقة. لقد فاته أن الرزق لا يلزم بالضرورة أن يكون كافيا فلا يموت العبد أو الحيوان أو الحشرة من الجوع، بل قد يكون كافيا أو شحيحا، ومع هذا يسمى رزقا: "يَبْسُط الرزقَ لمن يشاء من عباده ويَقْدِر". وعلى كل حال فالمقصود بالآية أنه سبحانه الخالق لكل شىء. وما دمنا فى هذا المساق فيحسن بى أن أورد مناقشة دارت بينى وبين رجل ريفى متمرد بجهلٍ كان يتحدث عن الله بنفس الأسلوب الذى يتحدث به عِبْس حتى لقد كان يقول أحيانا إنه لو تولى أمر الكون بدل الله لكان تنظيمه له أفضل كثيرا مما هو عليه. وكان الرجل يشتغل فى شبابه زمارا، ثم كسرت يده فظل إلى آخر عمره لا يحسن العمل بها، فكان يقضى وقته بلا عمل، على حين تجرى زوجته عليه وتوفر له الطعام والشراب والشاى واللحم، وهما أهم شىء فى حياته: إذا توفرا له رضى عن حياته وعن الله وتأدب فى الحديث عنه. أما إذا نشفت الأمور فيا داهية دقى! ويا سواد يوم زوجته، التى لم توفر له الأحمرين! ويا ويل من يشير له إلى أنفه مجرد إشارة. إنه ليتحول ساعتها إلى بركان يقذف حمم السخط والتطاول على الذات الإلهية لاعنا كل شىء، محقرا من أوضاع الحياة وتصريفات الدنيا.

والطريف فى حكاية كسر يده أنه كان ذات يوم مسافرا للزَّمْر فى عرس ببلدة من بلاد المركز تحت قيادة عمه "رَيِّس" الفرقة، وكان اليوم يوم جمعة، وحان وقت الصلاة وهم داخلون البلدة التى فيها العرس، وقد أخذوا يزمرون ويطبلون، فاقترح على عمه أن يؤجلوا ذلك إلى ما بعد الصلاة حتى لا يُجْلِبوا على الخطيب و المصلين، فنهره عمه قائلا: حين تكون أنت "الريس" يا روح أمك فافعل ما بدا لك. أما، وأنا "الريس" هنا، فاشتغل وأنت ساكت. فاشتغل الرجل وهو ساكت. وفى طريق العودة ركبوا الأوتوبيس كما جاؤوا، وكان جالسا جنب الشباك وواضعا يده على حافته، وتصادف أن مرت الحافلة بجوار أحد الجدران فحدث ما ألجأ السائق إلى الاحتكاك بالجدار ودُعِكَتْ يد عم عثمان فيه فتكسرت أصابعه. ورغم أنه قد أُسْعِف وعولج فقد صار لزاما عليه طول عمره حسب أوامر الأطباء أن يفردها فى الهواء ويحرك أصابعه دائما كمن يعزف على مزمار حتى لا تتشنج. ومربط الفرس فى الحكاية أنه كان دائما ما يقول لله: أهذا جزائى منك لقاء إنكارى على عمى الزمر والطبل ساعة صلاة الجمعة؟ وهو نفس منطق عباس عبد الديجور كما ترى!

المهم أننى فى ضحى ذات يوم من إجازة أحد الأصياف أيام الشباب جرى بينى وبينه نقاش فى موضوعه الخالد: ترى كيف يقول الله فى كتابه: "مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ" (الشورى/ 20)، وهأنذا لا أريد شيئا من حرث الآخرة، بل أريد حرث الدنيا، ولا شىء غير حرث الدنيا، لكنه لا ينفذ ما أريد، فكيف لى أن أصدقه؟ قلت له وأنا أبتسم ابتسامة لا تخلو من مكر: وإذا أجبتُ يا عم عثمان على سؤالك، أتسكت ولا تفتح ثانية هذا الموضوع الذى لا تكف عن إثارته منذ أيام الشيخ يوسف الشيخ؟ (والشيخ يوسف هذا رحمه الله هو جد د. عبد الفتاح الشيخ رئيس جامعة الأزهر الأسبق. ولم أكن رأيت فى حياتى الشيخ الكبير لأنه مات قبل أن أولد فيما أتصور). أجابنى: وهو كذلك. قلت: لو أننى قلت لك مثلا: من كان يريد ما فى جيبى هذا أعطيته منه، ثم فضل أحدهم هذا الجيب على الجيب الآخر، فمددت يدى وأخرجت له مما فيه من زهور مختلفة الأصناف بعضا من زهور فساء الكلاب، أأكون قد أخلفت وعدى له؟ فرد من تحت أسنانه وهو مغتاظ أشد الغيظ: ولكن أفلم تجد ما تعطينيه إلا فساء الكلاب؟ قلت له: لقد قلت: سأعطيك "مما" فى جيبى. و"مما" هذه ليس معناها أن أعطيك أحسن ما فى الجيب أو كل ما فيه، بل "مما" فيه. وهأنذا قد فعلت. قال متبرما: ولكن جواب الشيخ يوسف كان أفضل من جوابك. قلت: وماذا قال لك؟ قال بزهو وفخر واضحين: لقد قال لى: تأدب مع مولاك يا عثمان! والآن أيها القراء الكرام، هل ترون من فارق بين الشيخ عثمان والشيخ

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير