تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفى القِسْم الذى خصصه أبو الأعباس الفَطّاس من كتابه للهجوم على الآيات المرتبطة بالعلوم الطبيعية يبدأ حديثه (ص186) بأنه قد تنبه إلى ما فى القرآن من أخطاء علمية منذ عقود طويلة (كما جاء فى ص188 نصًّا) وانقشعت الأساطير عن ذهنه، فكيف يعود فى المقدمة فيقول إنه لم يتحرر من القرآن وخرافاته إلا بعد بلوغه الثمانين: الثمانين التى لم يبلغها قط لأنه مات قبل بلوغها؟ ترى ماذا ينبغى أن يوصف به كلام مثل ذلك الرجل الذى يتنفس الكذب والتناقض تنفسا؟

وفى ص191 وما بعدها نسمع أبا العبابيس وقد ذهب فى فاصل طويل من السخرية بالآيات القرآنية التى تتحدث عن السماء بصورة أدبية، واقفا عند السماوات السبع مخطئا ما قيل فيها. لكن هل هو على يقين من أن ما قاله القرآن عن السماوات السبع خطأ؟ أليس معناه على الأقل أن القرآن قد بين للناس منذ ذلك الوقت المبكر من التاريخ الإنسانى أن هذه السماء التى يرون نجومها وكواكبها ليست إلا سماء واحدة فقط من سماوات سبع؟ أليس هذا فتحا جديدا يحث العقل على عدم الاستنامة إلى ما تشاهده الحواس فى ذلك الزمن المتخلف علميا؟ ثم ما وجه الخطإ فى كلام القرآن عن المصابيح السماوية؟ هل لا بد، متى تكلم القرآن عن النجوم والكواكب، أن يذكر أبعادها والمسافات التى تفصلنا عنها وطبيعة تكوينها ويستخدم الأرقام والإحصاءات والمعادلات الرياضية، ولا يصفها أبدا بأنها مصابيح؟ أليس ذلك فسولة فى العقل، وبلادة فى الإحساس، وتفاهة وتنطعا فى تناول مثل تلك القضايا؟

أما بالنسبة إلى تهكمه على ما قاله القرآن عن رَجْم الشياطين، فهل هناك دليل على أنه لا يوجد شياطين ولا رجوم، فى الوقت الذى ليس عندنا ولا عند غيرنا ما يمكن نفى ذلك على أساسه؟ وعلى كل حال فالقرآن لم يقل قط فى أى موضع منه إن رجم الشياطين قد بدأ منذ ولادة الرسول عليه السلام كما يسخر الكاتب. وأما أن الملائكة التى فى السماوات لم تكن ليلة الإسراء والمعراج تعلم ببعثة محمد فهو إشارة إلى أنها، رغم كونها ملائكة، لا تعلم الغيب. فالغيب من اختصاص الله، إلا إذا أطلع عز وجل فى بعض الأحيان أحدا من رسله على شىء منه لحكمة من الحكم. أما فيما عدا هذا فالغيب صندوق مغلق لا يعلم بما فى داخله أحد حتى ولا الرسول محمد أو الملائكة. ألا يضع هذا حدا لما كان الكهان يزعمونه من معرفتهم للغيب، ومن ثم يتسلطون به على عقول البشر؟ فما قول عباس الهلاس فى هذا؟

ويبقى تهكمه على التصوير الأدبى الذى يقدم به الحديث الشريف قصة المعراج وأنه، عليه الصلاة والسلام، حين كان يصل إلى إحدى السماوات، كان يستأذن فيُفْتَح له. فهل كان يريد عِبْس أن ينتهج النبى فى ذلك الوقت المبكر، وفى ذلك المجتمع المتخلف، نهج علماء الطبيعة فيأتيهم بعد الإسراء والمعراج وفى يده مناظير فلكية ترصد أبعد المجرات طالبا من أبى جهل وأبى لهب والوليد بن المغيرة وأضرابهم أن يأتوا فينظروا المسار الذى اتخذته رحلته المعراجية حتى بلغ سدرة المنتهى (تلك التى يكتبها صاحبنا بضم سين "سُدْرة" دليلا على تبحر علمه اللغوى الذى لم يحرزه أحد!)، أو أن ينصب شاشة چامبو فى شوارع مكة يعرض عليها تفاصيل المعراج وهو يعلق عليها بطريقة د. مصطفى محمود فى حلقات برنامج "العلم والإيمان"، وقد جلس أهل مكة متربعين على الأرض (فالنبى عربى، والبساط أحمدى!)، وقد فتحوا أفواههم دهشة وانبهارا؟

سيقول: ألستم تزعمون أن فى القرآن حقائق علمية؟ والجواب: بلى، لكننا لا نزعم أنه كتاب فى العلوم الطبيعية ولا أن محمدا عالم فى وكالة ناسا القرشية، بل رسول بعثه الله لهداية قومه والعالم وانتشالهم من الضلال إلى الهدى، ومن ظلام الروح والضمير والعقل والذوق إلى النور الأبلج، وهى المهمة التى أداها النبى خير قيام وكانت ثمراتها إعجازا حضاريا بكل المقاييس. فإن وردت آية تدل دلالة قوية على حقيقة علمية دون اللجوء فى تفسيرها إلى البهلوانيات التى تلوى رقبتها لَيًّا فأهلا بذلك وسهلا، وإلا فإن مهمة الرسول هى هداية الروح والضمير وتحرير العقل من الخرافات التى تكبله وتمنعه من الانطلاق الحر يجوس أرجاء الكون ويحرز الانتصارات تلو الانتصارات.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير