تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على أن إيماننا بالإله المطق القدرة والإرادة والقوة والعلم لايعنى أبدا أن الإنسان ليس سوى ريشة فى مهب الرياح كما يزعم نيافة العبس أن القرآن يطلب منا أن نؤمن، إذ يدعى نيافته أن من يؤمن بالقرآن وإله القرآن لا بد أن يفقد الثقة بنفسه وبالإنسان (ص232). ذلك أن القرآن يكرر كثيرا أن للإنسان إرادة ومشيئة. ولقد تتبعت ذات يوم منذ ما يقرب من عشرين سنة ما يقوله القرآن عن المشيئة الإنسانية فوجدت شيئا عجبا: وجدت أن القرآن يسند المشيئة إلى البشر منذ كانوا فى الجنة الأولى التى أُهْبِطوا منها إلى الأرض إلى أن يدخل الداخلون منهم الجنة، ثم لا تفارقهم تلك المشيئة داخل الجنة مع ذلك. وهذا موجود بتفاصيله فى كتابى عن سورة "الرعد"، التى درستها مع طلابى بكلية التربية بالطائف أيام كانت تابعة لجامعة أم القرى بمكة المكرمة. ومن تلك النصوص: "قلنا: يا آدم، اسكن أنت وزوجك الجنة (الجنة الأولى)، وكلا منها رغدا حيث شئتما"، "وقل: الحق من ربكم. فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر"، "وكذلك مَكَّنّا ليوسف فى الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء"، "نساؤكم حَرْثٌ لكم، فأْتُوا حرثكم أنَّى شئتم"، "وإذ قيل لهم (أى لبنى إسرائيل): اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم"، "تجرى من تحتها (أى من تحت جنة الآخرة) الأنهار، لهم فيها ما يشاؤون".

إلا أن المشيئة الإنسانية ليست مطلقة، بل محدودة ككل شىء بشرى. كما أنها موهوبة وخاضعة للمشيئة الإلهية. وليس فى هذا أدنى تناقض، فمشيئة الله تسيطر على كل شىء، وقد اقتضت هذه المشيئة المطلقة المسيطرة أن يتمتع الإنسان بمشيئة جزئية محدودة داخل تلك المشيئة اللانهائية. ونرى الآيات القرآنية فى بعض الأحيان تركز على المشيئة الإلهية بوصفها كل شىء، وأحيانا أخرى نراها تبرز المشيئة البشرية. وكلا الأمرين صحيح. كل ما هنالك أن طريقة التعبير تختلف تبعا لاختلاف الزاوية التى يتم رصد الأمر منها: فإن نظرنا إليه من الأفق العلوى بدا لنا كل شىء منطويا فى غمار المشيئة الإلهية، على حين لو نظرنا إليها من الأفق السفلى اتضح لنا أن هناك أيضا إرادة إنسانية، وأن هذه الإرادة قادرة على تحقيق العجائب، إذ بهذه المشيئة الصغيرة استطاعت البشرية أن تحقق ما يبدو وكأنه معجزات خارقة، فبنت الحضارات وأبدعت الآداب والفنون والنظم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفلسفات والعلوم، وصنعت الكتب والأقلام والورق واللُّعَب والسيارات والقطارات والطيارات والصواريخ وسفن الفضاء والمذياع والتلفاز والبواخر والغواصات وأجهزة الكاتوب، وأنشأت البيوت والمعابد والملاعب واكتشفت علاج آلاف الأمراض، واستنبطت ملايين الأساليب للتسلية وتمضية الوقت فى سعادة ورضا ... إلى آخر القائمة التى لا نكاد نعرف لها آخرا.

وبناء على هذه المشيئة الضئيلة التى تنجز العجائب سوف يحاسب الإنسان يوم القيامة، ولسوف يكون الحساب نسبيا، أى حسب السياق الذى يكون فيه صاحب العمل بمشجعاته ومثبطاته. ومن هنا نفهم لماذا تتحدث الآيات القرآنية عن العفو والغفران الذى قد يصل إلى مسح كل ذنب لصاحبه وكأنه لم يكن. أما قول عِبْس إنه قرر أن يلقى بالله خلف ظهره وينساه ويعتمد على نفسه فى اجتلاب النفع والخير لنفسه، واجتناب الأذى والشر فهو كلام الحمقى الذين عدموا العقل والذوق. وإلا فمن خلق عِبْس؟ ومن وهبه تلك الحرية التى يتيه فرحا بها ويهدد بأنه لن يعتمد إلا عليها، وكأنه طفل قرر أن يخاصم واحدا من لِدَاته تعارك معه على لعبة من اللعب؟ بل من وهبه العقل والحواس واليد والرجل والفم واللسان والأسنان والبطن والعظم والأعصاب؟ فكيف يتصور أنه يمكن أن يستغنى عن الله ويمضى فى الحياة دون إله؟ على رأى المثل: الناس حين تكبر تعقل، وعِبْس حين يكبر يفقد عقله وذوقه! وكلما اكتشف الإنسان المزيد من القوانين الكونية وأبدع من الآلات والأدوات ما لم يكن معروفا من قبل اتسع نصيبه من الحرية وانداح مداها.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير