تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفى ص278 نرى عِبْس يسخر من الدعاء مؤكدا أنه أمر لا جدوى من ورائه ولا طائل لأن الله لا يجيب الدعاء أبدا، غافلا عن أن تحقيق الدعاء (بالمعنى الذى وضحناه آنفا طبقا لما جاء فى الحديث النبوى) مرهون بجملة شروطٍ مؤداها أن يبذل الإنسان كل ما لديه من جهد وعلم وإبداع للخروج من المأزق الذى هو فيه والحصول على المطلوب الذى يرنو إليه. لكن عِبْس يظن أن الكون تكية للعاطلين والكسالى والمتبلدين كالتكية التى يزعمون أنه كان "مديرا" لها. ويبدو أنه مَرَدَ على التنبلة والبلادة والجلوس دون شغلة ولا مشغلة، فاهما أن الحياة "أكل ومرعى وقلة صنعة"، فهو يريد أن ينام فاتحا فمه فتنزل فيه العصافير مشوية جاهزة منزوعة العظم ليأكلها دون أن يحرك ساكنا. ولهذا نرى الله لا يستجيب لنا دعاءنا ضد إسرائيل، والكاتب من جهته يتهكم على عدم استجابته سبحانه هذا الدعاء بالذات. فهل ترانا صنعنا شيئا فى سبيل تحقيق هذا الدعاء سوى الأغانى والرقص والتهديدات الجوفاء التى انعكست ضدنا كعكوسات السحر عند العوام المتخلفين من أمثال عباس بن نسناس؟

وهذا يجرنا إلى الكلام عن مشكلة وجود الألم والمعاناة فى العالم. ولم يقل القرآن قَطُّ إن كل شىء فى الدنيا تمام التمام، بل وضّح بمنتهى الصراحة أن الإنسان مخلوق فى كَبَد: "لقد خلقنا الإنسان فى كبد" (القيامة/ 4)، وأن الحياة فى جانب منها ابتلاء: "ولنبلُوَنّكم بشىءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأَنْفُس والثمرات" (البقرة/ 155)، "ولَنَبْلُوَنّكم حتى نَعْلَم المجاهدين منكم والصابرين ونَبْلُوَ أخباركم" (محمد/ 31)، "لَتُبْلَوُنّ فى أموالكم وأنفسكم ولَتَسْمَعُُنّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذًى كثيرا" (آل عمران/ 136). كما بين لنا فى قصة الخلق أننا إذا خرجنا من الجنة بسبب مطاوعتنا لإبليس وتصديقنا لوعوده شَقِينا: "فلا يُخْرِجَنَّكما (يا آدم أنت وحواء) من الجنَّة فتَشْقَى" (طه/ 117). وحين وقعت الواقعة قيل لهما: "اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ" (البقرة/ 36). كذلك أوضح القرآن أن من الفتن ما لا يقتصر أثره وأذاه على مرتكبيه فقط، بل يتعداهم إلى غيرهم. ومن ذلك إلقاء القمامة فى الشارع وتلويث مياه الأنهار وعدم إتقان ما ُيْعَهد إلينا من أعمال والغش والرشوة والخيانة الوطنية والتدخين فى حضور الآخرين ... وهذه مجرد أمثلة كيفما اتفق. يقول سبحانه: "واتقوا فتنةً لاتُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُوا منكم خاصَّةً". وفوق هذا فمن أسماء الله فى القرآن: الجبار والمنتقم. ومن مظاهر جبروته الزلازل والبراكين والأوبئة والسيول والفيضانات، وإن لم يمنع هذا أن يكون لهذه الكوارث أسبابها البشرية أحيانا.

لكن هذا كله شىء، والقول بأن الحياة جميعها شرور وآلام شىء آخر، مهما تصورنا فى غمرة ضيقنا أو بسبب تشاؤم مزاجنا أنها فعلا كذلك، إذ ما أكثر ألوان السعادة والرضا فى الحياة، لكن البشر يَعْمَوْن عادة عن الموجود فى أيديهم ولا يعتبرون إلا ما ينقصهم فهم يتطلعون إليه وينسَوْن ما يرفلون فيه من نعمة. والعجيب أنهم ما إن يحرزون هذا الذى كان ينقصهم حتى يعدموا الشعور به بعد قليل وكأنه لم يكن مطمح آمالهم من قبل. قد يقال: أوليس هذا ذاته مظهرا من مظاهر النقص فى الدنيا؟ لكنى أتصور أن الإنسان، بشىء من التدريب والتركيز، يمكنه أن يكتسب فضيلة الشكر على ما يملكه فى يده فلا يكون دائما فى حالة تطلع وسخط وانعدام شعور بما فى يديه وكأنه غير موجود. على كل حال ففى الحياة آلام وأوجاع ومشاكل كثيرة، ومهما حَلَلْنا شيئا من تلك المشاكل جَدَّتْ مشاكل أخرى ... وهكذا دواليك. ولست أدرى أهذا جزء من طبيعة وجودنا بوصفنا كائنات محدودة نسبية أم ماذا؟ إلا أن هذا هو الواقع، وهذا هو أيضا ما قاله القرآن الكريم، الذى لم يزوق الأوضاع فى أعيننا على حساب الحقيقة، بل أخبرنا بكل شىء كما هو فى الواقع.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير