من المعلوم أنّ الحديد معدن وصل من النيازك والشهب التي تسقط على الأرض من كواكب السماء وليس من معادن الأرض المخبوءة فيها، وقد توصّل العلماء إلى هذه النتيجة مؤخّرًا، وربط باحثو الإعجاز العلمي بين هذا الاكتشاف العلمي والآية القرآنية التي تقول: "وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس"، فلم يقل الله "وخلقنا الحديد" أو "وجعلنا الحديد"، فاعتبروا قوله تعالى: "وأنزلنا الحديد" إشارة إلى مجيئه من مكان آخر، وقالوا إنّ الآية تشير إلى هذه الحقيقة، لكنّ آخرين ردّوا عليهم فقالوا إنّ الله قال: "وَأَنزَلَ لَكُم مِّنْ الْأَنْعَامِ ثمانية أزواج" (الزمر،6)، وقال: "يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا" (الأعراف،26)، فهل ذلك يعني أنّ الأنعام واللباس والريش أنزل من السماء؟ لا أحد يقول بذلك.
طالما أنّ هناك اعتسافًا وإسرافًا في الحديث عن الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، فما هي الحِكَم والمقاصد والأهداف التي استهدفتها الآيات التي أشارت إلى الكون والطبيعة والإنسان والشمس والقمر والمطر والسحاب والجنين إلخ ... ؟ الحقيقة أنّ هناك عدّة حِكَم ومقاصد وأهداف من هذه الآيات، وهي قد تكون أجلّ وأسمى وأصوب وأجدى على الإنسان المسلم من الحديث عن الإعجاز العلمي، وهذه الحِكَم والمقاصد والأهداف هي:
الأول: البناء النفسي للمسلم:
استهدفت كثير من الآيات التي تحدّثت عن الطبيعة الإنسان والسماء والأرض والماء والريح إلخ ... البناء النفسي للمسلم، وتوجيه قلبه إلى الله تعالى: تعظيمًا وخضوعًا وحبًّا وخوفًا ورجاء وثقة إلخ ... ، ويمكن أن نمثّل لذلك بآيات وردت في سورة إبراهيم، قال تعالى: "اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ. وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ. وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" (إبراهيم،32 - 34).
بدأت هذه الآيات بتقرير عدّة أمور هي: أنّ الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وهو تعالى الذي أنزل المطر الذي كان سببًا في نمو الشجر ونضج الثمر الذي أضحى طعامًا لنا، وهو الذي هيّأ الأسباب لتبحر السُّفُن عباب البحر، وهو الذي سخّر لنا عدّة مخلوقات: الأنهار والشمس والقمر والليل والنهار، ثم يبيّن الله لنا فضله علينا: وهو أنه آتى العباد من كل ما سألوه، مع أنّ نِعَم الله أجلّ أوسع من أن تحصى، ومع ذلك فإنّ الإنسان لا يحمد الله حق الحمد ولا يشكره حق الشكر بل هو ظلوم كفّار.
"
كثير من الآيات التي تحدّثت عن الطبيعة الإنسان والسماء والأرض والماء والريح تستهدف البناء النفسي للمسلم، وتوجيه قلبه إلى الله تعالى: تعظيمًا وخضوعًا وحبًّا وخوفًا ورجاء وثقة
"
يقتضي تقرير الآية أنّ الله الذي خلق السماوات والأرض من العدم على غير مثال سابق وهو خلق عظيم يحوي ملايين النجوم والأفلاك التي تسبح في الفضاء منذ ملايين السنين وإلى ما شاء الله، يقتضي تعظيمه تعالى.
ويقتضي إنزاله تعالى الماء من السماء أن نعظّمه تعالى لأنّ إنزال المطر تطلّب تبخير الماء، وإرسال الرياح، وتحميل السحاب، وحدوث البرق والرعد، تطلّب كل هذا وكثيرًا غيره نجهله، وهذا كله يقتضي تعظيمه تعالى، ويقتضي أن نحبّه تعالى لأنه أنعم علينا بهذه النعمة التي ترتبط حياتنا بها أشدّ الارتباط طعامًا وشرابًا، وأن نرجوه تعالى في أن يستمرّ في إنزاله علينا، وأن نخافه تعالى من أن يحرمنا منه.
ويقتضي تسخيره تعالى لنا الفلك التي تمشي الهوينى على سطح الماء، أن نعظّمه تعالى لأنّ سيرها احتاج إلى عشرات الموافقات، وأن نحبّه تعالى لأنّ نعمة استخدام السفن نعمة عظيمة ندرك قيمتها لو تخيّلنا عدمها كم ستصبح الحياة شاقة وصعبة.
ثم يخبرنا تعالى أنه سخّر لنا الأنهار، ويقتضي هذا التسخير أن نحبّه تعالى لأنه هيّأ لنا هذه النعمة فنشرب ماءها، وتشرب منها بهائمنا، ونسقي بها زروعنا، ونركبها في انتقالنا.
¥