تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

بيّن الشاطبي أن الشريعة الإسلامية شريعة أمية؛ لأن الله بعث بها رسولاً أميًّا إلى قوم أميين كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ) (الجمعة: 2)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب) (متفق عليه، عن ابن عمر) فيلزم أن تكون الشريعة على معهودهم وفي مستواهم.

ثم بعد هذا البيان أوضح الشاطبي أن الشريعة – في تصحيح ما صححت، وإبطال ما أبطلت– قد عرضت من ذلك إلى ما تعرفه العرب من العلوم، ولم تخرج عما ألفوه، ثم يتوجه باللوم إلى قوم أضافوا للقرآن كل علوم الأولين والآخرين، مفندًا هذه الدعوى قائلاً:

ما تقرر من أمية الشريعة، وأنها جارية على مذاهب أهلها –وهم العرب– ينبني عليه قواعد، منها: أن كثيرا من الناس تجاوزوا -في الدعوى على القرآن– الحدَّ، فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين والمتأخرين، من علوم الطبيعيات والتعاليم [كالهندسة وغيرها من الرياضيات] والمنطق وعلوم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون من هذه الفنون وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح [11].

ثم يدلل الشاطبي على رأيه هذا ويحتج له بما عرف عن السلف من نظرهم في القرآن فيقول: (إن السلف الصالح -من الصحابة والتابعين ومن يليهم- كانوا أعرف بالقرآن وبعلومه وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شيء من هذا المدعى سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض ونظر لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه شيء مما زعموا، نعم تضمن علوما من جنس علوم العرب أو ما ينبني على معهودهم مما يتعجب منه أولو الألباب، ولا تبلغه إدراكات العقول الراجحة، دون الاهتداء بأعلامه، والاستنارة بنوره، أما أن فيه ما ليس من ذلك فلا) [12].

ثم شرع الشاطبي بعد هذا في ذكر الأدلة التي استند إليها أرباب هذا التفسير (التفسير العلمي) فقال: (وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: 89)، وقوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ) (الأنعام: 38) .. ونحو ذلك، وبفواتح السور –وهي لم تعهد عند العرب– وبما نقل عن الناس فيها، وربما حكي من ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره أشياء).

بعد ذلك طفق الشاطبي ينقض هذه الأدلة، واحدا بعد الآخر بمنطقه القوي، فقال رحمه الله: (فأما الآيات: فالمراد بها عند المفسرين ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ): اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع العلوم النقلية والعقلية.

وأما فواتح السور: فقد تكلم الناس فيها بما يقتضي أن للعرب بها عهدا، كعدد الجُمّل الذي تعرفوه من أهل الكتاب، حسبما ذكره أصحاب السير، أو هي من المتشابهات التي لا يعلم تأويلها إلا الله تعالى، وغير ذلك, أما تفسيرها بما لا عهد به فلا يكون, ولم يدّعِهِ أحد ممن تقدم، فلا دليل فيها على ما ادعوا، وما ينقل عن علي أو غيره في هذا لا يثبت، فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه وتقوّل على الله ورسوله فيه، والله أعلم، وبه التوفيق) [13].

ومنطق الشاطبي هنا منطق قوي، وأدلته لا مطعن فيها، إلا ما كان من اعتماده على (أمية الشريعة) بناء على أمية الأمة. ذلك أن أمية الأمة ليست أمرًا مطلوبًا ولا مرغوبا فيه، بل بعث الله رسوله في الأميين رسولاً ليخرجهم من الأمية إلى باحة العلوم والنور، كما قال تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2) فهذه مهمة الرسول مع الأميين: التلاوة والتزكية وتعليم الكتاب والحكمة ولا عجب أن كانت الآيات الأولى من الوحي تنبئ بذلك: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ* خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ* عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) (العلق: 1 - 5)، وأقسم سبحانه بالقلم فقال: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ) (القلم: 1).

فالأمية ممدوحة في حقه صلى الله عليه وسلم؛ لأنها أدل على الإعجاز وليست ممدوحة في الأمة، وعلى الأمة أن تتحرر منها ولتتعلم وتتفقه وتنظر في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء، وقد قال تعالى: (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ) (الزمر: 9).

ولقد كان الرسول الكريم هو أول من حارب الأمية، كما رأينا ذلك حين قبل في أسرى بدر أن يفتدي بعضهم نفسه إذا كان كاتبا، وأن يعلم عشرة من أولاد المسلمين الكتابة. من أجل هذا لا نقبل فكرة أمية الشريعة إلا إذا حملت على معنى الفطرية والسهولة، والبعد عن التكلف والتعقيد، وبالله التوفيق.


[1] مقدمة تفسير الشيخ شلتوت ص11 - 14 طبعة دار الشروق بمصر

[2] ذكر ذلك الدكتور الذهبي في الجزء الثاني من كتابه (التفسير والمفسرون) ص495،496 طبعة المختار الإسلامي سنة 1985 نشر مكتبة وهبة.

[3] وهي قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة، قل: هي مواقيت للناس والحج ... ) البقرة: الآية 189

[4] في ظلال القرآن ج 1 م 180 - 182 طبعة دار الشروق

[5] الإحياء 1/ 289 دار المعرفة بيروت.

[6] انظر جواهر القرآن ص32 - 34.

[7] إحياء علوم الدين، الموضع السابق.

[8] في النوع الخامس والستين: في العلوم المستنبطة من القرآن، 4/ 27 - 31.

[9] أي في مثل قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل) (البقرة 127).

[10] انظر الموافقات وتعليقات دراز 2/ 69 وما بعدها.

[11] الموافقات 2/ 79.

[12] الموافقات 2/ 79 - 80.

[13] الموافقات 2/ 81 - 82
¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير