تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

مخصصة بشيئين: إما هو الدم المتجمد، وإما هو الدويبة التي تتعلق بالكائن الحي لتمتص دمه. ثم الذوق اللغوي الحصيف يخبرنا أنه لا يمكن تفسير (علق) و (علقة) في القرآن بالمعنى الثاني أي الدويبة، فلا يُعقَل إن يُقال (خلق الإنسان من علق) بمعنى خلق الإنسان من تلك الدويبة! ولا أن يُقال (ثم خلقنا النطفة علقة) بمعنى خلقناها وصيّرنا تلك الدويبة المعروفة! وذلك ليس لغرابة الكلام فحسب بل لأن تلك الدويبة هي كائن خاص ذو مواصفات خاصة فلا يمكن إطلاق اسمها على أشياء بدعوى تشابهها مها، وأما الدم المتجمد فليس شيئا خاصا بل هناك أنواع من الدم المتجمد، ابتداء بالدم المتجمد العاديّ إلى الجنين مرحلة العلقة إذ يبدو كقطعة دم متجمدة .. وهكذا.

ولماذا مكث علماؤنا ومفسرونا والأمة كلها يمتنعون عن تفسير (علقة) بإرادة الدويبة المذكورة مع أن اللغة تحتملها؟ الجواب واضح، وهو أنه لا يمكن أن يتكلم متكلم بمثل ذلك، فهم استبعدوا تماما ذلك المعنى من دائرة النص فلم يفكروا فيه أبدا.

وأما قول الطاهر بن عاشور بأن كلمة (علق) أطلقت أولا على الدويبة ثم أطلقت على الدم المتجمد من باب التشبيه والاستعارة، فلا أظن أن غيره يوافقه، فالظاهر أن كلا من الدويبة المعروفة وقطعة الدم المتجمدة أطلق عليها ذلك الاسم على أنها تتعلق بالأشياء. وأنقل هنا من معجم مقاييس اللغة:

(علق) العين واللام والقاف أصلٌ كبير صحيح يرجع إلى معنىً واحد، وهو أن يناط الشَّيء بالشيء العالي. ثم يتَّسع الكلام فيه، والمرجع كله إلى الأصل الذي ذكرناه. تقول: عَلّقْتُ الشيءَ أعلِّقه تعليقاً. وقد عَلِق به، إذا لزِمَه. والقياس واحد. والعَلَق: ما تعلَّق به البَكَرة من القامة. ويقال العلَق: آلة البَكْرَة. ويقولون: البئر محتاجة إلى العَلَقِ. وقال أبو عبيدة: العَلق هي البَكرة بكل آلتِها دون الرِّشاء والدَّلو. والعَلَق: الدم الجامد، وقياسُه صحيح، لأنَّه يَعْلَقُ بالشيء؛ والقطعة منه عَلَقة. قال:

* ينْزُو على أهْدامه من العَلَق *

ويقول القائل في الوعيد: "لتفعلنَّ كذا أو لتَشْرَقَنّ بعَلَقة " يعني الدّم، كأنّه يتوعده بالقَتْل. والعَلَق: أن يُلَزَّ بعيرانِ بحبلٍ ويُسْنَى عليهما إذا عظُم الغَرْب. وأعلقتُ بالغَرب بعيرين، إذا قرنتَهُما بطَرَف رِشائه.

قال اللِّحيانيّ: بئر فلانٍ تدوم على عَلَق، أي لا تنْزح، إذا كان عليها دلوانِ وقامة ورشاء. وهذه قامة ليس لها عَلَق، أي ليس لها حبل يعلَّق بها.

قال الخليل: العَلَق أن يَنَشِب الشيء بالشيء. قال جرير:

إذا عَلِقَتْ مخالبُه بقِرْنٍ ... أصابَ القلبَ أو هتك الحجابا

وعَلِق فلانٌ بفلانٍ: خاصمه. والعَلق: الهوى. وفي المثل: "نظرة مِن ذي عَلَق"، أي ذي هَوىً قد عَلِق قلبُه بمن يهواه. وقال الأعشى:

عُلِّقْتُها عرَضاً وعُلِّقتْ رجلاً ... غيري وعُلِّق أخرى غيرَها الرّجُل

ومن الباب العَلاَق، وهو الذي يجتزئ [به] الماشية من الكلأ إلى أوان الربيع. وقال الأعشى:

وفلاةٍ كأنّها ظهرُ تُرسٍ ... ليس إلاّ الرَّجيع فيها عَلاَقُ

يقول: لا تجد الإبل فيها عَلاقاً إلاّ ما تردّده من جِرَّتها في أفواهها*. والظبية تعلُق عُلوقاً، إذا تناولت الشجرةَ بفيها. وفي حديث الشهداء: "إنَّ أرواحهم في أجواف طيرٍ خُضر (66) تَعْلُق في الجنَّة". والعُلْقة: شجر يبقى في الشِّتاء تَعلُق به الإبلُ فتستغني به، مثل العَلاَق. ويقال: ما يأكل فلانٌ إلا عُلْقَة، أي ما يُمْسِك نَفْسَه.

قال ابن الأعرابيّ: العُلقة: الشَّيء القليل ما كان، والجمع عُلَق. ومن الباب: العَلَقة: دويْبة تكون في الماء، والجمع عَلَق، تَعْلَق بحَلْق الشَّارب.

فهنا ترى أن المادة كلها تدل على التعلق والالتصاق، فأطلقت على أشياء كثيرة متنوعة من الباب نفسه.

وحينما فسّر (محمد شحرور) كلمة (خمار) بأنها تعني (اللباس) عموما كان المعنى الاشتقاقي يؤيد تفسيره الخاطئ هذا، ولكن العرف اللغوي خصص كلمة (خمار) بغطاء الرأس خصوصا. وهكذا فالعرف اللغوي أيضا تجب مراعاته أيضا وليس المعنى الاشتقاقي البحت. أقول هذا لأن بعض الناس ممن يشتغلون بالتفسير يأخذون بالمعنى الاشتقاقي ويملؤون الباقي بشيء من عندهم، أي هم بأنفسهم يقومون بعمل العرف اللغوي من تخصيص وتشخيص .. وهذا بيّن البطلان، لأنه من التحكم والهوى.

وأنا فرح أيضا بأنك من أهل الإنصاف ومن أهل النظر والتحقيق، فلا توافق التفسيرات العلمية كلها، وهكذا كتب الدكاترة العلماء (يوسف القرضاوي) و (محمد الغزالي) و (محمد سعيد البوطي)، فهؤلاء الأعلام كتبوا عن التفسير العلمي فلم يرفضوه كليا ولم يقبلوا بكل تفسير علمي أو مسمى بـ"علمي".

وأنا أيضا أعمل هكذا، فأفحص وأمحّص كل تفسير علمي على حِدة، وليس عندي قاعدة عامة مطّردة.

وأنا أدعو إلى فحص وتمحيص التفسيرات العلمية بانحياز وحياد تام، بالاحتكام إلى اللغة والسياق والعرف اللغوي والذوق اللغوي السليم والثابت من التفسير النبوي وتفاسير السلف.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير