تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فأنت ترى هنا أن عكرمة عرّف العلقة بالدم. وهذا حجة لي عليك، ولكنني لا أزال أقول إنه لا يمكن إطلاق (علقة) على الدم بصورة عامة، فلا يمكن أن نسمي الدم في الجسد علقة، بل هي قطعة دم واقعة على الأرض مثلا وهي عادة تكون غليظة لزجة. هكذا يقول لي ذوقي اللغوي! وأرى أنهم حين يفسرون العلق بالدم إنما يصفون مادته وأنهم لا يريدون أنه يصح إطلاق العلق على الدم عموما.

وإطلاق (علقة) على قطعة الدم الغليظة وارد في بعض الأحاديث أيضا في غير موضوع الجنين، فمثلا: الحديث الذي يروي حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وهو غلام، فيروي مسلم ـ على سبيل المثال ـ:

(حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ الْبُنَانِىُّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَتَاهُ جِبْرِيلُ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الْغِلْمَانِ فَأَخَذَهُ فَصَرَعَهُ فَشَقَّ عَنْ قَلْبِهِ فَاسْتَخْرَجَ الْقَلْبَ فَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً فَقَالَ هَذَا حَظُّ الشَّيْطَانِ مِنْكَ. ثُمَّ غَسَلَهُ فِى طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بِمَاءِ زَمْزَمَ ثُمَّ لأَمَهُ ثُمَّ أَعَادَهُ فِى مَكَانِهِ وَجَاءَ الْغِلْمَانُ يَسْعَوْنَ إِلَى أُمِّهِ - يَعْنِى ظِئْرَهُ - فَقَالُوا إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ قُتِلَ. فَاسْتَقْبَلُوهُ وَهُوَ مُنْتَقَعُ اللَّوْنِ. قَالَ أَنَسٌ وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِى صَدْرِهِ).

صحيح مسلم، الحديث رقم 431، جـ. 1، ص. 101.

وأكثر المعاجم العربية تقول (الدم العليظ) أو (الدم المتجمد) أو (الدم الجامد) ونحو ذلك. فمثلا: يقول الجوهري في الصحاح: (العَلَقُ: الدمُ الغليظُ، والقطعة منه عَلَقَةٌ. والعَلَقَةُ: دودةٌ في الماء تمصّ الدمَ، والجمع عَلَقٌ).

ولاحظ أن المعاجم تورد معنى (الدم المتجمد) كأول معنى ثم تورد المعاني الأخرى.

ومن المحتمل أن هذا هو أصل تسمية الدودة المعروفة بالعلق، فإنها تشبه قطعة دم غليظة، كما يُستفاد من كلام الكثيرين من أهل اللغة والتفسير، فمثلا يقول الأزهري في تهذيب اللغة: (وقال الله عزّ وجلّ: " ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً "، العَلَقة: الدم الجامد الغليظ، ومنه قيل لهذه الدابَّة التي تكون في الماء عَلَقة، لأنّها حمراء كالدم. وكلُّ دمٍ غليظٍ عَلقٌ) .. وإن كان الظن الغالب أن الدودة سميت بذلك لأنها تتعلق فتتعلق بشارب الماء، تتعلق بحلوق المواشي حين تشرب الماء.

ولا يمكن القول بأن (علق) في الآية هو أي شيء يعلق!! فالقرآن يقصد شيئا معينا ولا يريد أن يقول إن الإنسان مخلوق "من أي شيء يعلق" أو "من شيء يعلق"!! لا يُعقَل أن يقصد النص هذا. بل المحتم أن النص يقصد شيئا خاصا معينا ويُطلَق عليه ذلك الاسم لأنه يعلق ويتعلق. ويجب أن يكون تفسير الكلمة بشيء معروف في العرف اللغوي، فلا يجوز ما يقوله طائفة من المفسرين العلميين من أن العلقة هي خلايا الجنين المتعلقة بجدار الرحم! وأما معنى (الدودة التي تعلق وتمتص الدم) فهذا معروف في العرف اللغوي، ولكن هل يناسب التعبير القرآني؟ هل يجوز أن يُقال إن الإنسان خًُلِق من علقة أي من تلك الدودة!! بينما الجنين في مرحلة العلقة هي قطعة دم ولا فرق في الظاهر بينه وبين أية قطعة دم أخرى، فيصح تسميته بالعلقة لأنه قطعة دم حقيقة، ولكنه ليس تلك الدودة قطعا. وربما يُقال إن النص يحتمل ذلك المعنى على وجه التشبيه والاستعارة، أي أن قوله (علق) أو (علقة) استعارة تصريحية بحسب مصطلحات علم البيان، حيث (العلق) هو المشبَّه به، والجنين في تلك المرحلة هو المشبَّه، ووجه الشبه هو العلوق أو المظهر الدموي الأحمر .. ولكن لماذا لم يقل أحد المفسّرين بهذا على طول تاريخ التفسير مع اختلافهم وتشعب أقوالهم؟ .. الجواب واضح، وهو أنه لا وجه ولا حاجة لذلك، فالتفسير بـ (الدم المتجمد) هو التفسير البديهي المتفق عليه. وإذا نظرنا في هذه المصطلحات التي تصف مراحل نشوء الجنين (نطفة ـ علقة ـ مضغة) رأينا أنها كلها مفردات عامة استعملت لمصداق واحد من مصاديقها، فالنطفة هي الماء القليل ولكن استعملت اللفظة للماء القليل الذي هو المني. والعلقة هي الدم المتجمد ولكن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير