استعملت اللفظة هنا للدم المتجمد الذي هو الجنين في مظهره الخارجي. والمضغة هي اللحمة بقدر ما يُمضَغ ولكن استعملت اللفظة هنا للحمة التي هي الجنين قبل تميّز أعضائه. وهذه المصطلحات الثلاثة تشير إلى مواد أو أنواع وحالات من المادة الحية، ولا تشير أي منها إلى كائن حيّ خاصّ. خصوصا أن تعبير (خلق الإنسان من علق) باحتوائه على أداة (مِن) يُفيد أن (العلق) هي المادة التي تَشكَّل منها الجنينُ، فإذا كان المقصود من العلق هو الدودة كان المعنى أن الإنسان خُلِِق من مادة دودة أو أنه كان دودة في مرحلة من مراحل نشوءه جنينا، وهذا المعنى غير لائق ومضحك. بينما إذا كان المقصود من العلق هو الدم الغليظ كان المعنى أن الإنسان خُلِِق من دم غليظ أو أنه كان دما غليظا في مرحلة من مراحل نشوءه جنينا وهو معنى مناسب لا اعوجاج فيه.
وأما عن قولك بأن المفسرين فسروا لفظة (علق) بما تحتمله اللفظة وفق علوم عصورهم؛ فأنا بيّنتُ أن اللفظة ليست لفظة قرآنية خاصة، بل هي مفردة عامة من مفردات اللغة، وهي تعني أية قطعة دم غليظة، والمفسرون كانوا يعرفون اللغة العربية وكانوا يتمتعون بذوق لغوي جيد ففهموا النص كما هو على حقيقته ففسروا (العلق) بالدم الغليظ. وما كان ذنبهم سوى أنهم كانوا يعرفون اللغة جيدا ويتذوّقونها تذوقا حسنا! وأما المفسر العلميّ العصري فليس لديه من الذوق اللغوي الجيد ما يدرك به ركاكة تفسيره المصطنَع.
وعليه يكون معنى العلق: خلق الإنسان من شيء يعلق. وإذا كانت العلقة توجد في الماء ولها شكل محدد وتقوم بالعلوق والامتصاص، فإن أي شيء يماثلها في الشكل والسباحة في الماء والعلوق والامتصاص فهو علق. وأصحاب التفسير العلمي لم يخرجوا عن دائرة الحقيقة اللغوية ولا العرفية، وليس هناك من حقيقة شرعية لمعنى العلق.
أنت تقول بأن (علق) كلمة ذات مدلول عام فتدل على كل شيء يعلق، ثم تقول إنه الدودة المذكورة التي تعلق، ثم تقول إنه يعني أي شيء يماثل هذه الدودة في الشكل والسباحة في الماء والعلوق!
فأي معنى من هذه المعاني الثلاثة هو المقصود في التعبير القرآني؟
أنت تجعل الكلمة ذات مدلول عام لتخصصه بعد ذلك بما يطيب لك، وأما التخصيص الذي يعرفه العرف اللغوي العربي منذ نزول القرآن وقبله فترفضه (أقصد تخصيصه بالدم المتخثر أو الجامد).
أولا يجب عليك أن تثبت أن (عَلَق) في اللغة هو كل شيء يتعلق بالأشياء. وأنا أشكّ في هذا. فعبارة الفيروزآبادي (كل شيء عُلِّق) لو كان بصورة (كل شيء يَعْلَقُ) لكان حجة لك، ولكنه يقول (عُلِّقَ) وهذا يعني الأشياء المعلََّقة وليس الأشياء التي من طبيعتها التعلق والعلوق. وهذه العبارة (كل شيء عُلِّق) هي لابن سيده (في "المحكم والمحيط الأعظم") وينقلها الفيروزآبادي وابن منظور وبعدهم "المعجم الوسيط"، وقد ضُبِطت في هذه المعاجم كلها بـ (عُلِّق) وليس (عَلِقَ). ولكن إذا اكتُشِف أنها مضبوطة في أقدم نُسَخ (المحكم والمحيط الأعظم) بصورة (كل شيء عَلِقَ) لانعكس الأمر. ولكنني أقول إنه لا يمكن أن يُقال ـ في هذا السياق ـ (كل شيء عَلِقَ) بل المناسب أن يقال (كل شيء يَعْلَقُ).
وحتى إذا افترضنا أن (العلق) في اللغة هو أي شيء يعلق، فإنه لا يمكن القول بأن (علق) في الآية هو أي شيء يعلق!! فكما قلنا يقصد القرآن شيئا معينا ولا يريد أن يقول إن الإنسان مخلوق "من أي شيء يعلق" أو "من شيء يعلق"!! لا يُعقَل أن يقصد النص هذا. كما بيّنّا.
ثانيا، يجب عليك أن تثبت أنه يجوز إطلاق كلمة (علق) على كل شيء يشبه الدودة التي تعلق وتمتص الدم. من أين لنا أن نثبت أن هذا الاستعمال كان موجودا في لغة القرآن أو أنه مقصود في النص القرآني؟
الغرض هو أن التخصيص يجب أن يكون موجودا في اللغة ولا تصنعه أنتَ. المفسرون العلميون ينصبون أنفسهم مكان العرف اللغوي فيخصصون دلالة الكلمة من عند أنفسهم، وهذا هو المحذور.
وهذا مثل القول بأن (خمار) هو كل شيء ساتر ثم تخصيصه بساتر موضع معين كما فعل محمد شحرور. بينما العرف اللغوي يخصصه بغطاء الرأس.
وما أدراك أن النص يقصد هذا المعنى العرفي المعين أو ذاك إن لم تستعن بالسياق والذوق اللغوي والشواهد المرتبطة بالنص مثل النصوص المفسِّرة والشروح القديمة للنص؟
وملاحظة أن الجنين في تلك المرحلة يشبه الدم الغليظ ملاحظة عامة يعرفها الناس عموما، ويمكن القول إن كل النساء المجربات (والقابلات خصوصا) يعرفن ذلك. لأن السقط يكون على تلك الهيئة. ولم يخاطب القرآن الناس في تلك الأمور إلا بما يعرفون (كما بيّن الشاطبي في كلامه الذهبي في الموافقات).
ويجب أن نعلم أننا لا نقصد بالعرف أي عرف وفي أي عصر ومجتمع، بل نقصد العرف اللغوي القائم في الذخيرة اللغوية التي تمثلت في لغة القرآن الكريم. فهل كان العرف اللغوي في ذلك الزمان يخصص (علق) بخلايا الجنين التي تتعلق بجدار الرحم أو بالجنين باعتبار أنه يشبه الدودة التي تمتص الدم بشكله أو وجوه الشبه الأخرى؟ من الواضح أن شيئا من ذلك لم يكن موجودا. هذه هي النقطة المقصودة، أن لا نفسر القرآن بوجه لغوي لم يكن في العربية التي عاصرت نزول القرآن.
باختصار، أنا أريد أن أقول: إن المعنى القرآني هو المعنى الذي كان للقرآن حينما كان ينزل، هذا هو القرآن. وعلينا أن نجتهد بكل الوسائل لنعرف ذلك المعنى ونكتشفه. واكتشافه ليس بالأمر الصعب، بل يجب فقط أن نتحرر من أي نزعة خاصة في التفسير ونستمع بإخلاص إلى النص نفسه ونحتكم إلى العربية الأصيلة والذوق اللغوي والسياق والشواهد والأدلة ونستفيد من التراث التفسيري الضخم.
¥