وإذا قيل: إن عقل الله اتَّحد بالمسيح - أي: بالناسوت - في رحم مريم، فهل دخل الله بعقله في رحم مريم؟! أم دخل عقلُه وحده رحم مريم، وبقي الله بلا عقل؟! وإذا كان الله قد اتحد بالمسيح في رحم مريم - اتحاد اللاهوت والناسوت - فهل كان الله يدبِّر الكون، ويعلن ذاته، وينفذ إرادته من داخل مريم؟
? وإذا كان الثلاثة - الآب، والابن، والروح القدس - هم واحد - لا ثلاثة - مثل حرارة الشمس وضوئها، المتحِدين بها - كما يحلو لهم التمثيل بذلك في تفسير "وحدة الثالوث" - فإن الضوء وحده لا يقوم بوظيفة الشمس، وكذلك الحرارة وحدها لا تقوم بوظيفة الشمس، وإنما من كل مكونات الشمس: الضوء، والحرارة، وغيرها؛ للقيام بوظائف الشمس.
? وأما كون المسيح - في القرآن - هو روح الله: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، فإنها لا تعني ألوهيته؛ فلقد نفخ الله - سبحانه وتعالى - في آدمَ من روحه، ولم يقل أحد: إن آدم قد صار إلهًا.
? وأما تفويض القرآن الكريم للمسيح - عليه السلام - معجزات الخلق: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49]، فهو معجزة بإذن الله، وليست خلقًا ابتدائيًّا كخلق الله، وكذلك شفاؤه للمرضى، وإحياؤه للموتى، هو إعجاز بإذن الله؛ {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ} [آل عمران: 49].
فهو إعجاز يُظهِره الله على يديه، وليس ثمرةً لألوهيته، وإلا كان شريكًا لله في الخلق والإحياء والإماتة، والشراكةُ تعني الشركَ لا التوحيد.
? ويستدل الكتاب بآية سورة الزخرف: {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 61].
استدلاله بجعل القرآن المسيحَ من علامات الساعة يتجاهل أن هذه الآية مسبوقة بالآية 59 التي تقول: {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59].
فهو عبد الله ورسوله، جعله آخر أنبياء بني إسرائيل، وعلامات الساعة - كل علاماتها - مخلوقةٌ لله الواحد الأحد.
? وميلاد المسيح بلا أب لا يعني ألوهيته، وإلا لكان آدم - عليه السلام - أولى بذلك؛ فلقد خُلق دون أب ولا أم، إنهما خلق الله، وكلمات الله، خُلقا بقدرة الله الواحد الأحد؛ {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59].
(3)
حول العصمة، والخطيئة، والمعجزات
قال صاحب المنشور التنصيري (ص22، 36): "إنه حتى الأنبياء لم يكونوا معصومين من الخطيئة، وأن كل البشر - حتى الأنبياء والمرسلين - ليس فيهم من له خلاص كامل من عقاب الخطيئة، باستثناء شخص واحد، هو المسيح، هو الكامل كمالاً مطلقًا بلا أية خطيئة فعلية أو أصلية، فهو غير مولود وارثًا لطبيعة الخطيئة الأصلية من أبينا آدم".
وقد ذهب ليستشهد على نفي العصمة عن الأنبياء بدعاء نوح - عليه السلام -: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28]، ودعاء إبراهيم - عليه السلام -: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
? كما ذهب فاستشهد بالعهد القديم - كتابه المقدس - على أن نوح - عليه السلام - قد سكر وتعرى؛ (تكوين 9:21).
? وأن إبراهيم - عليه السلام - قد كذب، وفرط في زوجته؛ (تكوين 20:42).
فيرد دكتور عمارة على ذلك، فيقول:
إن عقيدة العصمة للأنبياء والمرسلين ضرورةٌ عقلية؛ لكمال الله - سبحانه وتعالى - ولحكمته في اصطفاء الأنبياء والمرسلين، ولمصداقية الرسالات التي أرسلهم الله بها إلى الناس.
فمن العبث - الذي يتنزَّه عنه عقلاءُ البشر - أن يختار الإنسان رسولاً يبلِّغ رسالةً وأمانة، دون أن يكون هذا الرسول جديرًا بجذب المصداقية إلى هذه الرسالة وهذه الأمانة.
ثم إن هذه العصمة للأنبياء والمرسلين هي عصمة فيما يبلِّغون عن الله، وعما ينفِّر أو يشين، وليست عصمة مطلق الاجتهادات التي قد لا توافق الأَولى والصواب، فهم في الاجتهادات غير معصومين.
¥