ـ[د. عبدالرحمن الصالح]ــــــــ[02 Mar 2010, 11:51 م]ـ
مثلما أنتج المغرب العربي عظماء ومجددين كابن حزم وابن رشد وابن خلدون من يُعدون من مفاخر الإنسانية لا مفاخر أمة الإسلام وحدها فقد أنتج هدميين رجوعيين كابن عربي وغيره.
واليوم قد أنتج للأمة ثلاثة مفكرين كبارا هم محمد عابد الجابري وعبدالله العروي ومحمد أركون الجزائري، وهؤلاء، شأن كثير من الفلاسفة، يتميزون بفهم كبير للكليات ولكنهم كثيرا ما يقعون في سوء فهم للجزئيات، مردّه إلى أنهم ليسوا عرباً في أصل نشأتهم اللغوية، فالجابري قال في كتابه (حفريات في الذاكرة من بعيد) إنه نشأ في بيئة بربرية ثم تعلم العربية في طفولته. ومعروف عن العروي أنه تعلم العربية على كبر وكذلك أركون.
وحين يكون الشأن شأن المسائل العلمية وشأن الأفكار الكبرى والتجريدية فإن في الفرنسية غنية عن العربية وكذلك في اللغات الحية كاللغات الأوربية. لكن حين يتعلق الأمر بتفسير النصوص القرآنية وفهمها فإن الأمر يعتمد على الوحدة التفسيرية/
صغرى (كلمة) [مرجعها/ علم الصرف والمعجم] أو (أكبر) كالجملة [مرجعها الإضافي علم النحو والبلاغة]
أو (أكبر) كالفقرة والمنزلة [مرجعها الإضافي التاريخ (أي أسباب النزول) والبلاغة،]،
ومعلوم لدى علماء اللسانيات -وما أنا إلا قارئ لهم- أن الحضارة هي أكبر وحدة دلالية وأن الكلمة هي أصغر وحدة دلالية، ولما كان الفلاسفة (وليس أدل من الجابري والعروي وأركون عليهم في الثقافة العربية المعاصرة) يهتمون بمجموع العلوم الإنسانية من أجل نقد الفكرة كانوا من أهل الشأن حين تكون الوحدة الدلالية هي الحضارة أو ما قاربها كالثقافة وكالدولة وكعلاقة السياسي بالثقافي وكالفكر النظري في مرحلة تاريخية معينة، وكمصادر العلوم الطبيعية ومدى تأثير اليهودية والفلسفة الإغريقية في الحضارة العربية.
ولما كان هؤلاء المفكرون يجيدون بعض اللغات العالمية كالإنكليزية والفرنسية والألمانية كانوا على اطلاع بما يكتبه المختصون بالحركة الفكرية في القرون الإسلامية الثلاثة الأولى كالكتابين القيمين اللذين لا غنى عنهما لباحث جاد يريد فهم حقيقة المعتزلة ونشوء علم الكلام والقضايا الفكرية الكبرى التي شغلت الإسلاميين في القرنين الثاني والثالث الهجريين/ وهما كتاب مونتكمري واط وكتاب جوزيف فان إس عن تاريخ الفكر الإسلامي في القرون الثلاثة الأولى، ولا سيما كتاب جوسف فان إس لاستيعابه وشموله.
لذلك فإن المفسر حين يكون المعنى متوقفا على وحدة دلالية صغرى كالكلمة فإنه يعود إلى المعجم، أو ينتقد المعجم نفسه إذا توفرت له نصوص وشواهد تجعله يرجح دلالة على أخرى من بين احتمالات الكلمة.
كأن يستطيع الفصل في معنى الحيق هل هو (النزول والحصول) أم (الإحاطة)؟
وحين يكون المعنى متوقفا على تركيب من عدة كلمات يكون مرجعه (علم النحو) القابل أيضا للنقد والترجيح وإعادة الطرح والتصنيف شأن أي عمل بشري، ولاشك أن كتابات سيبويه وابن جني ومن لخص علمهما كابن هشام ما تزال المراجع الأولى للنحو العربي.
وحين يكون المعنى متوقفا على التاريخ، أي حين يحيل النص إلى حدث ليس موجودا فيه لكنه ضروري لفهم الدلالة، مثل قوله تعالى (فلا جناح عليه أن يطوف بهما) فما الذي صرف دلالة (لا جناح) من التخيير إلى الوجوب؟ فإن مرجع المفسر هو كتب التاريخ (كالتفاسير الموسوعية وكتب السير والحديث [الصحاح والسنن والمسانيد])
وحين يكون المعنى متوقفا على وحدة دلالية أكبر كالدولة، وآليات التدوين، والحضارة،وعلاقة الشفاهي بالكتابي،وقدرة الخط على حفظ النص، ونقد قدرة الذاكرة البشرية على الحفظ،وخصائص العقل الشفاهي والكتابي فإن حاجة المفسر إلى الفلاسفة والمختصين بالعلوم الإنسانية تبرز في هذه المرحلة أكثر من غيرها. والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها كان أحق بها
لقد قرأت هذا المقال الناقد للمفكر المغربي الجابري فرأيته ينم عن قصور كبير في فهم مرامي الجابري، وسأحاول أن أكون موضوعيا قدر المستطاع، وأحسب القارئ سيلمس ذلك واضحا، ولا سيما أني قد قدّمت (مكامن) ضعف هذا النوع من الأساتذة ألا وهو الجزئيات، أي المفردة والجملة، وأشرت إلى مكامن قوتهم وهو الوحدات الكبرى.
ونحن هنا في ملتقى أهل التفسير كان من أصحابنا من استفاد من الفلسفة وعلم الكلام كالرازي ومن استفاد من التاريخ كالطبري ومن وظف التأويل الذي لا يصمد أمام أي نقد فلسفي موضوعي ككثير من تفاسير أهل الأهواء، فقد رأيت من النصيرية من فسر (ذاالكفل) بأنه أبو طالب لأنه كفل طفولة النبي، وفي مذهب الفرس يسمى أبو طالب عمران، خلافا للتاريخ الذي سماه عبدمناف، لكي يمكن إسقاط اسمه على (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وءال عمران على العالمين)، وهم اليوم لا يشعرون بخجل حين يقتطعون جزءا من آية (إنما يريد الله ليُذهب عنكم االرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) ليُسقطوها على من يقصرون اسم أهل البيت عليه بناءً على برمجتهم العاطفية.
الزبدة أن هذا الموضوع وأمثاله ليس جديدا ولن يكون جديدا على أهل التفسير
وليس الجابري ولا أركون ولا العروي إلا مسلمون قادهم وعيهم وتفكيرهم إلى ما يظنون أنه الحقّ، وعلينا أن نبذل وسعنا في تأييد أو تفنيد أطروحاتهم بقدر طاقتنا.
وقد ارتأيت أن أورد المقال فقرة فقرة في القسم الثاني الذي سيأتي لاحقاً، وأعلق عليه بلون مختلف، عسى أن أكون قد قربت الفجوة بين من يريدون الحفاظ على الإيمان حتى ولو باغتيال العقل! وبين من يريدون الحديث عن العقل حتى ولو بـ"ـتجاهل" ضرورة الإيمان.
وأترك للقارئ الحكم والله وليّ التوفيق
¥